كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
يعيش لبنان أزمة مفتوحة منذ أن ورث «حزب الله» عن النظام السوري التحَكّم بمفاصل الدولة اللبنانية، وفي حال لم يبدِّل الحزب في خطة عمله اللبنانية فإن الأوضاع ستزداد سوءاً مالياً وسياسياً.
لم يتمكّن «حزب الله» بعد 18 سنة من محاولات إخضاع أخصامه والسيطرة على الدولة ومؤسساتها من ان يتفرّد بحكم البلد، ولن يتمكّن من ذلك بعد 18 سنة أخرى، لأن طبيعة لبنان التعددية لا تسمح بالتفرُّد، وقد أوصَل هذا الصراع البلد إلى الانهيار لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأن «حزب الله» وفريقه عاجز عن حكم لبنان، ولو كان قادرا لفعل ذلك وصعّب على أخصامه مهمة مواجهته من باب حُسن إدارة الدولة وتأمين مصالح الناس، ولا حاجة للمحاولة من جديد، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه، والسنوات الأربع الأخيرة التي امتلك فيها الفريق الممانع السلطة التنفيذية، تُثبت من دون أدنى شك بأنه لم يتمكّن من فعل اي شيء لمواجهة الانهيار ولن يتمكّن مستقبلاً.
السبب الثاني، لأنّ الدول الخليجية لم تعد في وارد مساعدة لبنان ما لم يساعد نفسه، ما يتطلّب وقف تمويل منظومة الحزب من مال الدولة، وتحقيق الإصلاحات التي تضع حداً للسرقة والهدر وتؤمِّن المداخيل للخزينة. وبالتالي، فصل مشروع السلاح عن مشروع الدولة، وعدا عن ان هذا الفصل يؤدي إلى تعزيز دور الدولة ومداخيلها، فإنه يعيد فتح الباب أيضا على مساعدات خليجية محتملة.
السبب الثالث، لأن غلبة أي فريق على آخر مستحيلة، ومواصلة المواجهة تُبقي لبنان في وضع انهياري مفتوح على مزيد من الانهيارات، وبالتالي الحلّ الموقّت يكمن في تحييد الدولة والناس عن هذا الصراع المتعلِّق بالسلاح خارج الدولة ومصادرة قرارها العسكري.
وانطلاقاً مما تقدّم فإن «حزب الله» مدعو لمراجعة سياسته التي وصلت إلى الحائط المسدود، ولم يعد بإمكانه مواصلتها قدماً، كما عليه الوصول إلى قناعة بأنّ إلغاء التعددية في لبنان وحكمه منفرداً أمر مستحيل، وفي حال لم يقم بهذه المراجعة ويتراجع إلى الوراء، فإنه سيتحمّل تبعات الانسداد في الأفق الوطني على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول، دستوري مع استمرار الشغور الرئاسي وغياب الانتظام الدستوري والمؤسساتي، ويستحيل مواجهة الأزمات اللبنانية في ظل مرحلة من تصريف الأعمال، فضلاً عن ان الشغور المتمدِّد سيؤدي مع الوقت إلى سقوط هيكل الدولة، لأن الوكيل لا يستطيع ان يحلّ مكان الأصيل لفترة طويلة.
المستوى الثاني، مالي مع تفاقم الأزمة المالية فصولاً، وفي ظل غياب المساعدات والإصلاحات والجباية لن تتمكّن الدولة من مواصلة دفع مستحقاتها، ما سيدخل البلد في العتمة والفوضى وغضب جيوش الموظفين التي فقدت رواتبها.
المستوى الثالث، وطني مع تفاقم الشعور بضرورة الفرز الجغرافي طالما ان الفريق الممانع ليس في وارد رفع يده عن الدولة ويُبقي البلد في حال من الانقسام والانهيار والشغور، وهذا الشعور آخذ بالتفاقم لأنه لم يبق متنفّس للناس في هذا البلد، وعندما تُسد أبواب الحلول والمعالجات على أنواعها تبدأ الناس بالبحث عن خيارات قصووية، وهذا أمر طبيعي وبديهي طالما ان الأفق الوطني مقفل بإحكام.
وعلى «حزب الله» ان يُدرك أيضا ثلاث حقائق أساسية:
الحقيقة الأولى، انّ المعارضة لن تدخل في تسوية معه بشروطه ولو استمر الشغور لسنوات، فما كان يصحّ سابقا لم يعد يصحّ حاضرا ومستقبلا، ولو نجح في انتخاب رئيس في غفلة من الزمن لن تمنحه فترة سماح ولن تدخل في هدنة معه، إنما ستواصل مواجهتها انطلاقا من قناعتها بأن الواقع المزري لن يتبدّل ما لم يتبدّل الفريق الذي يدير الدولة.
الحقيقة الثانية، انه عاجز عن استنساخ تجربة إدارة النظام السوري للبنان، كما انه عاجز عن إدارة الدولة، وانه ما لم يتعاون مع الشركاء في الوطن لن يتمكّن من فعل اي شيء، ويجب ان يُقلع عن محاولة إخضاع البلد لمشيئته، لأن الأمر لن يحصل وعامل الوقت لا يعمل لمصلحته.
الحقيقة الثالثة، ان فئة مذهبية لا تستطيع حكم لبنان، وان تلطّي هذه الفئة بمشروع ما يسمى مقاومة لم يعد قابلا للتسويق، وان مشروعه تراجع مسيحيا وسنيا ودرزيا وحتى شيعيا، وقرار الإدارة العامة للتبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى القاضي باعتبار 15 شخصية دينية شيعية غير مؤهلة للقيام بالإرشاد والتوجيه. وبالتالي، هذا القرار بالذات يعكس حجم الضعف الذي يعتري «حزب الله» غير المتقبِّل لوجود رأي مغاير له، لأن هذا الرأي المغاير له جمهوره داخل البيئة الشيعية، وعندما وجد ان هذا الرأي آخذ بالتوسُّع والتمدُّد أوصى هيئة التبليغ بإصدار القرار كرسالة إنذار بأنّ الرأي الذي يخالف رأيه داخل البيئة الشيعية ممنوع، ومن الواضح ان هذا القرار جاء بشكل أساسي ردا على الشيخ ياسر عودة الذي حطّم أحد فيديواته الأرقام القياسية بالمشاهدة حول انه «كل من يدعي انه حسيني ويدافع بكلمة واحدة عن اي نائب او وزير او زعيم في لبنان او العراق هو كاذب فاسد شريك معه أيّاً مَن كان يَكن، وسيحاسبه الله وسيكون الحسين عدوه يوم القيامة لأنه يستعمل اسمه وشعاراته وثورته (…)»، وذلك في ظل مخاوف الحزب من ان تتفاقم النقمة ضده داخل بيئته على وقع الانهيار والفوضى، خصوصا ان ثورة 17 تشرين اخترقت البيئة الشيعية قبل ان يُصار إلى وقفها بالعنف، والوضع اليوم أصبح أسوأ من العام 2019.
وانطلاقا من كل ما تقدّم فإن «حزب الله» يتحمّل مسؤولية الانهيار الحاصل والمأزق القائم، وصحيح انه ورث عن النظام السوري التحكُّم بمفاصل الدولة، ولكن البلد اليوم أشبه بلحظة خروجه من الحرب الأهلية وليس كما تسلّمه من النظام السوري، وهذه نقطة سوداء بحقه، والكرة اليوم في ملعب الحزب لثلاثة اعتبارات أساسية:
الاعتبار الأول، لأنه «يحمِّل لبنان أكثر من قدرته على الاحتمال»، وهذه الجملة قالها أمين عام «منظمة العمل الشيوعي» محسن ابراهيم ما أدى إلى انفجاره وانشطاره خدمة للقضية الفلسطينية، وهذا تحديدا ما يرتكبه «حزب الله» بحقّ البلد ما أدى إلى انفجاره شعبيا وماليا ودستوريا. وبالتالي، حان الوقت ان يدرك الحزب بأنه يحمِّل لبنان ما لا طاقة له على احتماله خدمة للقضية الإيرانية، واستمراره في السياسة نفسها سيؤدي إلى سقوط الدولة بالكامل، فهل يتعِّظ من تجربة من سبقه؟ وهل يراجع مشروعه السياسي؟
الاعتبار الثاني، لأنه يواصل السعي إلى السيطرة على مواقع الدولة برمتها من أجل ان يضمن الغطاء الشرعي لمشروع «مقاومته» غير الشرعي، وهذا السعي أدى إلى إضعاف الدولة وتحويلها إلى فاشلة وعاجزة وقاصرة، ويجب ان يُعيد النظر بهدفه السيطرة على الدولة كونه فشل فشلاً ذريعاً وانزلق البلد معه إلى الهاوية. وبالتالي، مشروع الربط بين مشروع الدولة ومشروع «مقاومته» لا يمكن ان ينجح وقد وصل إلى الحائط المسدود، وما عليه سوى ان يفصل مشروعه الخاص عن المشروع العام، وان يقتنع أنّ أقصى ما يمكنه القيام به الاحتفاظ بسلاحه وترك الدولة وإدارتها.
الاعتبار الثالث، لأنه يحتجز الانتخابات الرئاسية، وهذا الاحتجاز من دون أفق كونه إمّا يُبقي الدولة من دون رأس، وإما ان ينجح بانتخاب الرأس الذي يريده، ولكن انتخابه يُبقي الجمهورية منهارة ومشلولة ومعزولة، وما عليه سوى ان يلتقي مع المعارضة في منتصف الطريق لانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة وتأليف حكومة قادرة على الانقاذ، وماذا يستفيد مشروعه الخاص في حال استمر فشل المشروع العام؟
فالكرة في ملعب «حزب الله»، ولبنان أمام مفترق طرق مصيري، فإمّا ان يعيد النظر بسياسته ويتبنى مقولة الراحل محسن ابراهيم قبل فوات الأوان، وإلّا فإنّ المواجهة ستكون مفتوحة على فصول جديدة ويتجه معها لبنان إلى فرز جغرافي وديموغرافي، لأن اي صراع لا تُحسن إدارته ويتفلّت من ضوابطه ينزلق إلى الفوضى ويدفع باتجاه أوضاع جديدة…