كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
سريعاً يمر الوقت، ويكاد يكتمل العام الأول على الجمهورية، وهي بلا رئيس. وباتت قصة الرئاسة أشبه بمسلسل تلفزيوني طويل ومُمل. ولكن، بالتأكيد، سينتهي الفراغ ذات يوم. وحينذاك، سيظهر مَن الرابح في هذه المعركة الطويلة؟
في فترة فراغ 2014- 2016، انسحب مرشح قوى 14 آذار، أو مرشحوها. والتعبير الأكثر دقة هنا هو أنّ هؤلاء المرشحين استسلموا بسبب انعدام فرَص الفوز أمامهم. ورسا المشهد على مرشحين اثنين من الفريق السياسي الحليف لـ»حزب الله»، هما العماد ميشال عون والنائب السابق سليمان فرنجية، وصارت المعركة مجرد تنافس بين الأسماء لا مواجهة بين الخيارات السياسية.
بل إنّ خصوم «الحزب» اختلفوا بمعظمهم بين مؤيّد لأحد هذين المرشحين ومؤيد للآخر. وإذ أعلن الرئيس سعد الحريري دعمه فرنجية، رَد الدكتور سمير جعجع بإبرام «اتفاق معراب» مع عون. وفي الواقع، كان جعجع محشوراً بين مرشحين اثنين لا يريدهما. فرأى أن عون أقل خطراً عليه من فرنجية. واستخدم مقولة أن الزعيم الزغرتاوي «سوري أصلي» فيما الثاني «تقليد».
كان قد مَرّ على الفراغ في موقع الرئاسة، حينذاك، نحو عامين و4 أشهر. وتعرضت القوى «السيادية» لضغط معنوي ومادي، دولياً وداخلياً، يدفع بها إلى الإسراع في إنهاء حال الفراغ.
وتلقّت المرجعيات المسيحية تحذيرات من أن هذا الفراغ قد يصبح دائماً ويطيح الموقع نهائياً، ما يؤدي إلى اختلال التوازن الطائفي وسقوط الشراكة في الحكم. ولذلك، افترضت «القوات اللبنانية» وقوى أخرى داخل 14 آذار أنّ ملء موقع الرئاسة بمرشح الفريق الآخر، بعد التفاهم معه، ربما يكون أسلَم من الاستمرار في الفراغ بلا أفق.
لم يكن رهان جعجع في محله. فعندما وصل عون إلى بعبدا، عاد تماماً إلى صف «حزب الله» وتلاشت مفاعيل «اتفاق معراب». وتحت تأثير علاقته المتوترة مع العهد، أنجز جعجع مصالحة مع فرنجية حملت طابعاً شخصياً، لكنها لم تقرّب بين الرجلين سياسياً.
اليوم، لا يبدو مشهد الرئاسة مغايراً. ففي الأشهر الأولى من الفراغ، قرر فريق «السياديين» خوض المعركة بمرشح خاص (النائب ميشال معوض، ثم جهاد أزعور بالتقاطع مع «التيار الوطني الحر»). ولكن، سرعان ما تَشرذم هذا الفريق. واليوم، يتوزّع خصوم «حزب الله» بين فئة تدعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون وأخرى تؤيد الاستمرار بأزعور وأخرى مترددة. ولكن هناك من يميل ضمناً إلى القبول بانتخاب رئيس للجمهورية، ولو كان ينتمي إلى الفريق الآخر، بعد سلة تفاهمات تشكل برنامج العهد، بناء على فرضية أن ذلك يبقى أفضل للبلد من الفراغ.
ويقول أصحاب هذا الرأي: إذا رفضنا في المطلق انتخاب رئيس للجمهورية من حلفاء «حزب الله»، فهذا يعني أننا سنبقى من دون رئيس إلى أجل غير مسمّى. فتوازنات القوى الداخلية والخارجية باتت تميل منذ سنوات لمصلحة «الحزب»، ولا يبدو أنها ستتبدل في المدى المنظور.
وهذا تحديداً كان مأزق العام 2016. واليوم، ثمة ضغط يمارَس على القوى المحلية، تعبر عنه أصوات اللجنة الخماسية والمرجعيات الدينية المسيحية، لانتخاب رئيس للجمهورية عاجلاً. وهذه الأصوات كلها تطالب بأن يأتي الرئيس العتيد نتيجة للتوافق، فلا يشكل تحدياً لأحد.
ولكن، في المقابل، يخوض «حزب الله» معركة لا هوادة فيها لإيصال المرشح الذي يريده. وهو ربما يقترب من إنجاز تفاهم مع النائب جبران باسيل يؤدي إلى إنهاء «تقاطعه الانتخابي» مع القوى «السيادية».
في استطاعة كل من الطرفين المتقابلين، فريق «السياديين» والفريق الحليف لـ»حزب الله»، أن يعطّل نصاب الجلسة الانتخابية الثانية ويمنع وصول المرشح الذي يرفضه. لكن أي طرف لا يستطيع تأمين نصاب الجلسة الثانية ما يتيح له إيصال المرشح الذي يريده.
لكن المواجهة بين الطرفين ليست متكافئة في الواقع. فـ»الحزب» هو الأقدر على المناورة بمرشحه. وفيما سحب خصومه مرشحين اثنين حتى الآن، فهو يتشدّد في التمسك بمرشحه. ويخشى كثيرون أن تؤدي تسوية ضمنية بين الولايات المتحدة وإيران، يوافق عليها الفرنسيون والسعوديون، إلى تمكين «حزب الله» من إيصال مرشحه إلى بعبدا، في سيناريو مُشابه لذلك الذي أوصَل العماد ميشال عون.
هناك اتجاه يتنامى، داخل القوى «السيادية» و»التغييرية»، يدعو إلى تجنب الاستسلام والقبول بمرشح الخصوم، كما جرى في العام 2016، ولو كانت النتيجة إبقاء الفراغ في الرئاسة إلى أجل غير مسمّى. وهذه القوى تفضل استمرار الفراغ على أن يتولى الموقع «ميشال عون آخر».
يدرك «حزب الله» دقة المواجهة في هذه المسألة. ومن جهته هو اتخذ قراره بعدم التراجع، ويمضي في معركته مراهناً على أنّ القوى الداخلية والخارجية ستتعب وتستسلم لمرشحه مرة أخرى.
ولذلك، هي لعبة عضّ أصابع، ولا بد من أن يصرخ فيها أحد الطرفين من الوجع قبل الآخر. وصراخه سيكون بمثابة الإعلان عن خسارته.