كتب الدكتور جورج شبلي:
في زمنٍ قريب، نشرَت إحدى المجلاّت البريطانيّة ( دايت ) دراسةً بالغةَ الأهميّة، تتعلّقُ بالصحّةِ النفسيّة، مُشيرةً الى أنّ بإمكانِ نَبتَةِ ” المِيرامِية ” أو المَردَكوش، أن تُساهمَ في تقويةِ الخلايا العصبيّةِ في الدّماغ، ما يؤدّي، حتماً، الى تأخيرِ ما يُسَمّى العُتْهُ الدِّماغيّ. وتُستَخدَمُ هذه النّبتةُ، حالياً، لِتَحسينِ الإتّصالاتِ العصبيّةِ الدِّماغيّة، ما يُساعِدُ على التَّركيزِ والرَوِيّة، وبالتالي، على تمتينِ حالةِ الوَعِي. من المُفرِحِ، ومن دون أيِّ شَكّ، أنّ نبتةَ المَردكوش موجودةٌ في بلادِنا، وبِوَفرة، ومنَ المُفيد، أيضاً، أنّ الكثيرين، عندَنا، يستطيعون الإفادةَ من خدماتِها، خصوصاً أولئِكَ الذين يتعاطَونَ الشأنَ العام، سياسيّينَ وإعلاميّين، ويُتحِفونَنا بِمُداخلاتِهم المُتكرِّرةِ على وسائلِ الإِعلام، وعلى صفحاتِ التّواصلِ الإجتماعي، مُتَدَلِّيَةً أذنابُهم أَلقاباً.
إنّ رفعَ سَقفِ المُراجعة، والغَربَلة، والمراقبة، قبلَ إطلاق سَراحِ التّصريحات، والطلاّت، والتّغريدات، وتركيبِ الكلام، لم يَجِدْ سبيلاً الى هؤلاءِ المُندَفِعين الى اللَّتِّ، وابتكارِ البِدَع، بمعنى أن لا معركة مفصليّة في جماجمِهم بين الأنا الأعلى المُهَذِّبِ، والمُشَذِّب ( المُشَحِّل )، وبين الإحساسِ بالدَّغدَغَةِ الهَذَيانيّة، وحتى بالنّشوةِ عندَ بعضِهم، جرّاءَ الإستفاضةِ في هوامشِ الكلامِ المُتَصَدِّع، وقُبالةَ ما يَستدعيه “ظهورُهم” من تَصفيقِ المُتَلَقّين من أَتباعِهم غيرِ المَعصومين عن الشَّطَطِ، والغَباء. من هنا، أصبح واجِباً مُلِحّاً تعديلُ الموازين التي ترعى العلاقةَ بين عملِ العقل، وبين ما يَتَفَلّتُ منه، لئلاّ يَطغى الضَّجيجُ الشَّنيعُ ليغتالَ الأَسماع، وتحتاجَ الآذانُ، بالتالي، الى صِيانة.
لقد تتالَتِ الأحداثُ، في الآونةِ الأخيرة، ومنها المُؤسِفُ الدّامي، لا سيّما جريمةُ المرفأ، ومنها ما يقاسيه النّاسُ من قَهرٍ، وجوعٍ، وذلّ، ما يَستوجبُ، أخلاقيّاً، أن تتفاضلَ كفّةُ الصّمتِ المُحترِمِ لإصابةِ الوطنِ بضحايا الفواجع، ولدموعِ الشّعبِ لفداحةِ التّداعيات، على كفّةِ الثرثرة، والزَّعيق، والخطاباتِ المُسِفَّة. غير أنّ المُصابين بالتأخّر الذّهنيّ، والعاجزين عن التكيّفِ مع مُقتَضياتِ الأحداثِ، والوقائع، أطلقوا العنانَ لألسنتهم المَبتورةِ التَّعبير، والتي تعكسُ التدنّيَ المَقيتَ في قُدراتهم الفَهمِيّة، والقُصورَ في سلوكِهم التكيُّفي، فَبَدا، واضحاً، التَّبايُنُ بين عمرِهم الذِّهنيّ، وبينَ عمرِهم الزَّمَنيّ. إنّ هؤلاءِ المُفَوَّهين الذين يُتقِنون صِناعةَ الكلامِ الهابِط، في خَلطَةٍ واحدةٍ، مُعَدَّةٍ سلفاً في غالبِ الأحيان، يَبرعون في تضليلِ الرأيِ العام، وأنفسِهم أيضاً، بما ينطقون به من “جواهرَ” قبيحةٍ، تُشبهُ السّقوطَ في الوَحل. فالأحداثُ المَعيوشةُ المُستَأثِرةُ بالنّاس، تُعبِّرُ، بنفسِها، عن نفسِها، من دون الحاجةِ الى “تَنويراتِ” هؤلاءِ الغَيارى الذين يُساهمون، وبِبَلادَةٍ، في احتقارِ عقولِ الناس، بكلامٍ ممجوجٍ تفوحُ منه روائحُ الدَّجَلِ، والإثارةِ، والتّحريض، وكأنّه يَتَمَختَرُ في سوقِ نخاسةٍ سياسيةٍ، ومذهبيّةٍ، تنسحبُ على امتدادِ الشاشاتِ الصّفراءِ، والصّفحاتِ البائسة.
إنّ تَداوُلَ الواقعِ المَأسَويِّ بهذا المستوى من التّشويه، والتَنافسِ في التّقبيح، وتَجاوُزِ المَقبولِ في التّحليلِ المُتَخَيَّلِ أكثرُهُ، والدّافعِ الى الفِتنة، كلُّ ذلك يدفعُنا الى دعوةِ أصحابِ الخطاباتِ المَطليّةِ بالإِسفافِ، وعدمِ الإتّزان، الى القيامِ بنُزهاتٍ في الطّبيعةِ اللبنانيّة، علَّهُم يُلَملِمونَ بعضَ العقلِ، وهم يَلُمّونَ بعضَ المَردَكوش.