كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
يدخل تفجير مرفأ بيروت كبند مستقل ومتقدّم على غيره من البنود المرتبطة بالملف اللبناني، عبر مداولات جانبيّة تتزامن مع التحضير لبدء أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، العادية خلال النصف الثاني من شهر أيلول المقبل.
فظاعة أكبر إنفجار غير نووي في العالم أدى إلى سقوط ما يزيد على 220 شهيداً وضحيّة، بينهم أكثر من 20 شخصاً من الإتحاد الأوروبي، وإصابة آلاف الجرحى جرّاء تدمير مرفأ بيروت والمناطق السكنيّة المجاورة في 4 آب 2020، دفعت بالمتضررين وأهالي الشهداء والضحايا التواقين إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، إلى رفع قضيتهم إلى الأمم المتحدة، بعد انسداد أفق المسار الداخلي للتحقيق في لبنان، وذلك عبر عريضة وقّعها ما يزيد على 67 نائباً يمثلون أكثريّة النواب في المجلس النيابي، إلى جانب عدد من المنظمات غير الحكومية، والجمعيات الحقوقيّة وذوي الضحايا والشهداء الأحياء. وتهدف العريضة إلى مطالبة الأمم المتحدة عبر الصلاحيات الذاتيّة لأمينها العام أنطونيو غوتيريش، أو مجلس الأمن أو الجمعيّة العموميّة، بإنشاء لجنة دوليّة لتقصّي الحقائق تأخذ على عاتقها استكمال التحقيقات التي وصل إليها القضاء اللبناني، كما تطلب من الحكومة والسلطات القضائية تسليم نسخة عن المستندات التي كونّها المحقق العدلي وآخرين في الملف، والدفع في اتجاه تبيان حقيقة ما حصل في 4 آب 2020.
ويأتي طلب مساعدة المجتمع الدولي هذا على أثر التخبّط المتمادي والممنهج، كما التحلل الذي يصيب مؤسسات الدولة في لبنان، والقضائيّة تحديداً، والمخاوف المتزايدة من انضمام تفجير بهذا الحجم إلى سلسلة الجرائم التي لم يصل فيها التحقيق بعد تمييعه وطمس أدلته وحرف مساره إلى أيّة نتيجة تذكر. وهذا ما دفع الدول الصديقة للشعب اللبناني، وفق المتابعين، إلى إعادة النظر في موقفها «المتردد» من التحقيق الدولي، باعتبار أنّ الجهد الدولي الكبير، كما الأموال التي صرفت لإنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان إثر إغتيال الرئيس رفيق الحريري كان مخيباً لكثيرين.
أربع محطات أساسية
وبرز التغيير الجذري في المواقف الدوليّة والمحليّة عبر أربع محطات أساسيّة:
– الأولى: البيان الصادر عن «اللجنة الخماسيّة من أجل لبنان» عقب اجتماعها الثاني في الدوحة بتاريخ 17 تموز 2023، الذي تضمّن «تشديد مصر وفرنسا وقطر والسعودية والولايات المتحدة الأميركية على الحاجة الماسة إلى الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون، ولا سيما في ما يتعلق بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت عام 2020».
– الثانية: مطالبة البرلمان الأوروبي خلال اجتماع له في 3 آب الجاري، وبإلحاح بـ»إنشاء بعثة دوليّة لتقصي الحقائق وظروف الإنفجار في بيروت، مفوضة من قبل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة»؛ وفرض عقوبات هادفة ضدّ معرقلي التحقيق اللبناني في انفجار المرفأ.
– الثالثة: مطالبة 38 دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في بيان مشترك صادر في 7 آذار 2023، باستكمال اجراءات التحقيق في انفجار المرفأ – 4 آب 2020.
– الرابعة: مطالبة سفراء دول كل من ألمانيا، هولندا وأستراليا، أي الدول التي سقط لديها ضحايا في الإنفجار، بتعاون الدولة اللبنانية مع أي لجنة أو مسار دولي للتحقيق.
ووسط ترقّب الخطوات التي قد يعتمدها أصدقاء لبنان من أجل تهيئة الظروف لإسماع صوت الشعب اللبناني في الأمم المتحدة وايصال مطالبه، يبدو وفق معلومات «نداء الوطن» أنّ أكثرية الدول التي يتكوّن منها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لم تصل راهناً إلى حدّ المطالبة بإنشاء لجنة دوليّة مستقلة للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، رغم تأكيد غالبيّة الأعضاء وجوب تحقيق العدالة.
وهذا ما يشرّع الطريق أمام موقّعي العريضة لاعتماد خيارٍ موازٍ لا يتعارض والتوجه إلى مجلس حقوق الإنسان في التوقيت ذاته. ومن بين الطرق المعتمدة التوجه إلى عرض هذه المسألة على 193 دولة يحقّ لها التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وتسود المساواة بينها من حيث التصويت، وتعتبر القرارات الصادرة عن الجمعية المرتبطة بالإخلال بالأمن والسلام والأعمال العدوانية، قرارات ملزمة، تتخطى حسابات الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن واستخدامها حقّ النقض (VETO)، لمنع أي قرار يتناقض ومصالحها. وهذا ما يتطلب تأمين رأي عام ضاغط يحمل هذه القضيّة إلى كل مراكز القرار والدول التي لم تبخل يوماً في مناصرة الشعوب في قضاياها الأساسيّة المحقة، والشعب اللبناني تحديداً.
وفي هذا السياق، وبعدما تردد وقوف الوزير السابق المحامي كميل أبوسليمان وراء صياغة العريضة وإطلاقها، يوضح لـ»نداء الوطن» إنطلاقاً من دوره إلى جانب آخرين يعمدون إلى إتّباع الأطر القانونية في الخارج لكشف حقيقة ما حصل في 4 آب، وتحقيق العدالة، أن المسار القانوني للعريضة إلى الأمم المتحدة يجب أن يترافق وتحرّك في اتجاه دول أعضاء مجلس الأمن، والأمين العام للأمم المتحدة، والدول التي فقدت مواطنين لها في الإنفجار، من بينها إلمانيا وهولندا وأستراليا، وحضها على تبني هذا الملف وعرضه على الأمين العام للأمم المتحدة، الذي من خلال صلاحياته الذاتيّة يمكنه التحرّك.
ومع تشديد أبو سليمان على أنّ انسداد أفق استكمال التحقيق في الداخل وما نجم عنه من تضارب في المصالح بين الجهات المعنية في التحقيق منذ وقوع الإنفجار، يساهم في التوجه نحو الإستعانة بالمجتمع الدولي، أكّد أنّ العريضة تطالب بإنشاء لجنة تقصي حقائق تستلم نسخة من الملف والأدلة التي توصل إليها القضاء اللبناني، وتستكمل عملها عبر الصلاحيات التي تخوّلها التوسع في التحقيق في الشق الذي ترتئيه مناسباً لها ومساعداً في الوصول إلى الحقيقة.
ولفت إلى أن ما يميّز اللجنة عن المحكمة الدولية أنّ عملها يقتصر على كشف حقيقة الإنفجار، وتالياً تحديد المسؤوليات وكشف الأدلة عن الجهات المسؤولة عن إدخال النيترات والحيثيات التي أدت إلى التفجير أو الإنفجار؛ على أن يتم استخدام تقريرها أمام المحاكم الصالحة آنذاك، أكانت في لبنان أو في الخارج. وهذا ما يؤكّد أنّ ما ينطبق على عملها مختلف تماماً عما ينطبق على المحكمة الدولية، ولا يترتّب عن إنشائها أي أعباء ماليّة على لبنان.
وإلى جانب التعطيل الممنهج للمسار القضائي في لبنان، ومن أجل حض الدول على مقاربة المطالب التي حملتها الرسالة بجديّة أكثر، كشفت العريضة أمام المجتمع الدولي تأييد المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، بالصوت والصورة، لتشكيل لجنة تحقيق دولية. ما شكّل عاملاً إضافياً عزّز مطالب الأهالي المتضررين أمام المجتمع الدولي وتحذيراتهم المتكررة من تضاربٍ في المصالح بين المسؤولين عن كشف الحقيقة في لبنان.
وتوقف أبو سليمان في نهاية الإضاءة على هذا الإجراء، عند أهميّة توقيع أكثر من نصف أعضاء المجلس النيابي على العريضة، إلى جانب آخرين، واعتبر أن هذا الأمر يعكس إتساع رقعة التأييد الداخلي كما الدولي، لوجوب التحرّك دولياً وعدم ترك جريمة بهذا الحجم من دون تحقيق، وسط غياب الأفق الذي يؤشّر إلى إمكانية إعادة الإنتظام إلى المسار القضائي في لبنان.