كتب الدكتور جورج شبلي:
يُتحِفُنا بعضُهم مِمَّن نعرفُ، تماماً، وبوتيرةٍ شِبهِ يوميّة، بتكرارِ ” كليشيه ” مفادُها أنّه حَصَدَ مِمّا زرع، ويرسمُ لوجهِهِ وَجهَ قدّيس، أو وجهَ مَرجَعٍ مِثال، ويروحُ يَهدرُ في الحديثِ عن النّزاهةِ، والإخلاصِ للوطنِ وللناس، حتى أنّه يدعو هؤلاءِ الى الإنتفاضةِ على مَنْ نهبوهم، ولا يزالون، وأنّه مستعدٌّ للنّزولِ، أمامَهم، الى الشّارعِ، حامِلاً يافطةً كَتَبَ، هو، عليها: أُطردوا السّارقينَ الفاسدين من الهيكل !!!!
مقدّمة للتّذكير:
في زمن الأساطير، حدّثَنا صاحب ” ألف ليلة وليلة ” عن أشخاصٍ انتقلوا من حالِ الفَقرِ، والعَوَز، الى أن يفترشوا المال، ويلعبوا بالذَّهَب، بفِعلِ عامِلِ الحظّ، أو الصّدفة، أو ” خاتَم لبّيك”. معنى ذلك أنّهم لم يدفعوا جهداً في سبيلِ ما وصلَ إليهم. ومنهم مَنْ تبنّى البخلَ مذهباً، خوفاً من العودةِ الى ما كانت عليه حالُهُ في السابق، ومنهم مَنْ لم يرضَ بما قَسَمَهُ عليه حظُّه، فأرادَ الإستزادةَ مَدفوعاً بطَمَعٍ كالغُول.
كنّا نظنُّ أنّ حكاياتٍ كهذه قد طواها الزمن، وأنّ ماردَ القُمقُمِ قد استقالَ من وظيفةِ ” عَبدَك بينَ يديك “، وأنّ الثروةَ، إنْ حصلَتْ لأحدِهم، فبموجبِ كفاءاتِه، وجهودِه، ومثابرتِهِ على العمل. هذا لا يعني، ابداً، أنّنا لا نأخذُ بالإعتبارِ عاملَ الإِرثِ، وهو عاملٌ مشروعٌ، ومُعتَرَفٌ به، ومبروكٌ لِمَنْ يَصلُ إليه.
نِطاقُ البحث :
إنّ الغريبَ المُستَهجَن، هو الإنتقالُ العجائبيُّ الفاضِحُ، لبعضِهم من ذَوي الألقابِ المعروفين، ومنهم هذا “الأسطورةُ ” المُفَوَّه، من كفافِ اليومِ الى الرّوكفِلِريّة، نسبةً الى ” رُوكْفِلِر” الذي كانَ يُعتَبَرُ الأَغنى في كلِّ المَطارحِ والأَزمنة. إنّ هذا الإنتقالَ لم يتمّ بطريقةٍ واضحةِ المراحلِ والأسباب، وبشفافيّةٍ هي ترجُمانُ الصّدقِ والنّزاهة، ما يدفعُ، حتماً، الى الرّيبةِ والشكِّ في الكَسبِ غيرِ المشروع، أي في السّرقةِ والنَّهبِ، والصّفقاتِ المشبوهة. والأدهى، أنّ هذا البعضَ قد تورَّمَت أرصدتُهُ، وجُيوبُه، وهو بِلا تاريخ، خاصةً على المستوى النَّقديّ والإقتصاديّ، ما يقودُ الى فرضيّةِ سوءِ استخدامِ السلطةِ والمَوقِعِ للإثراءِ على حسابِ الوطنِ والمُواطِنِ، والمصلحةِ العمومية. ولمّا لا يُمكنُ إبقاءُ الأمورِ تحتَ البِساط، فهل سلطةُ المنصبِ تَمنعُ من طرحِ سؤالٍ لهُ هيبةٌ، ويكشفُ العَورات، هو : ” من أين لكَ هذا، يا هذا… ؟ “.
إنّ سرقةَ الناسِ والدولة، أو ما يُعرَفُ بال ” شَطارَة “، عندَنا، ليسَت، فقط، سلوكاً شائناً، وممجوجاً، تِبعاً للمقياسِ الأخلاقيّ، والوطنيّ، بل هي جريمةٌ موصوفةٌ ينبغي أن يُحاسَبَ مُرتكِبُها، أيّاً يَكُنْ إسمُهُ، ولَقَبُهُ، وموقعُه، وأقارِبُه، ونفوذُه. وذلك انطلاقاً من أنّ الثروةَ الهابطةَ على هذا المُرتكِبِ ليست، إطلاقاً، منَ الغامض، أو نعمةً أَفاضَها اللهُ عليهِ للإنتفاعِ بها في دُنياه، بل هي شكلٌ فاضحٌ من أشكالِ الفسادِ المُوَقَّعِ والمَختوم، ولا يحتاجُ لأيِّ فِطنةٍ، أو تَوَقُّدِ ذكاء، أو فَراسة، لِفَضحِه، حتى وَلَو عملَ المرتكِبُ على نَقلِ حساباتِهِ، وأرصدتِهِ، وممتلكاتِهِ، الى أقاربِهِ، أو قامَ بتهريبِهِ الى الخارج، للتَّحايُلِ على القانون، وإيهامِ الناسِ بأنّهُ في غايةِ البراءةِ والنّزاهةِ والعَفاف.
إذا كان الناسُ، في السابقِ، يخافون المتسلِّطين، فعلى المتسلِّطين، اليومَ، أن يخافوا الناس. من هنا، يَجدرُ بأصحابِ الشّأنِ في القَضاءِ الرّقابيّ، إِنْ كانَ لهذا القضاءِ، بعدُ، من هيبةٍ ووجود، أن يُبادِروا، فوراً، الى تَفغيلِ التّرسانةِ القانونيةِ التي تهدفُ، بالمساءلَةِ والمُحاسَبَة، لإعادةِ الأخلاقِ الى الحياةِ الرّسميّة، والوطنيّة، كذلك، يجبُ إنشاءُ منظومةٍ وطنيّةٍ للنزاهة، تتعاملُ، بشدّةٍ، وبعدالة، مع الذين صاروا يملكونَ قصوراً أكبرَ مِمّا نتصوّر، وأرصدةً أكثرَ مِمّا نتوقّع، وأصبحوا ذَوي أَشداقٍ فاغِرَةٍ، قادرةٍ على زَلْعِ “اللّقمةِ ” مهما بلغَ حجمُها، ومن دونِ أنْ يَغصّوا بها، ويا لَلْسّخرية.
خاتمة للتّطبيق:
إنّنا نضعُ، بِرَسمِ المُتنَوِّرينَ من أصحابِ السّلطانِ، غيرِ المُلَوَّثين بشوَّهَةِ الفساد، وما أَقَلَّهم عندَنا، وكذلك، بِرَسمِ النّاسِ الذين تَمَّ تشويهُ عقولِهم النَّاقدة، هذه القصّةَ العِبرة، علَّهم يَهتدونَ، ويهدون :
في إحدى القرى البريطانية، يُقامُ، سنوياً، مِهرجانٌ لمُحاسبةِ رئيسِ المجلسِ البَلَديِّ هناك. والطّريفُ أنّ المحاسبةَ تتمُّ عن طريقِ الميزان، إِذْ يَصعدُ الرئيسُ على الكَفّةِ، ويُصارُ الى وَزْنِهِ بالرَّطل. فإذا اتّضحَ أنّ وزنَهُ قد زادَ عَمّا كانَ عليهِ يومَ تَوَلّيهِ المنصبَ، بشكلٍ غيرِ عاديّ، فذلكَ يُثبِتُ أنّه لم يكنْ مُخلِصاً في عملِهِ، لأنّه كان يَستخدمُ ” بَطْنَهُ ” أكثرَ مِمّا كانَ يَستخدمُ عقلَه، أي أنّه كان يهتمُّ بتنميةِ ” قدراتِهِ ” الشخصيّةِ على حسابِ الإهتمامِ بقضايا القريةِ، وأهلِها، وبالتالي، يتمُّ عَزلُهُ، فَورا، وتَحويلُهُ الى المحاسبة.
وبعد، هل يوجدُ، عندَنا، مَنْ يَشربُ حليبَ السِّباعِ، ويَسألُ مَنْ دخلَ السلطةَ نَحيفاً، وأصبحَ وزنُهُ وزنَ فِيل، مِن أينَ لكَ هذا، يا هذا … ؟