كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
طوال السنة المنصرمة، منذ بدأت المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس، تعذّر التوافق على مواصفاته كما طرحها رئيس البرلمان نبيه برّي، أو طرح ما يماثلها حزب الله، أو طرح ما يشبهها قليلاً أو لا يشبهها أيضاً ـ إن لم يكن نقيضها ـ أفرقاء موزّعون على الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية وسواهم. إلى اليوم يدور انتخاب الرئيس من حول النقطة الصفر نفسها: المواصفات المتنافرة. في المبادرة الأخيرة لبرّي ما يشبه فتوى توفيقية بين وجهتَيْ نظر متناقضتين لا تلتقيان: أولى يقول بها الثنائي الشيعي ويدافع عنها رئيس المجلس بحماسة هي الذهاب إلى انتخاب الرئيس بعد طاولة حوار، وثانية يقول بها المناوئون للثنائي وهم الفريق المسيحي: انتخاب الرئيس يسبق الحوار الذي يديره هو في ما بعد. اختبرت وجهتَي النظر هاتين 12 جلسة للبرلمان، أولاها كالأخيرة فيها حتى الآن، أظهرت استحالة انتخاب الرئيس في ظل التوازن السياسي القائم في مجلس النواب.
أخيراً ظهرت إلى الواجهة وجهة نظر ثالثة نادى بها رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. خرج على الحلفاء المسيحيين المتقاطَع معهم مع أنه لا يزال يقول بتأييده ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، وهو يقترب أكثر فأكثر ممن أوشك أن يعلن طلاقه معه، وهو حزب الله. في حسبان باسيل أن المكسب السياسي الذي ينشده في حواره مع حزب الله أهم من الرئيس. يذهب أمام زواره إلى الأبعد في القول: «أهم من سليمان فرنجية ومن جوزف عون معاً». هو «المكسب المتأخر تحقيقه 33 عاماً». مع أنه لا يقول علناً إن حصوله، قبل جلسة الانتخاب على مكسبَيِ اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة والصندوق الائتماني في «قانونيْن يصدران عن مجلس النواب ويحملان في القانونين مراسيمهما التطبيقية» سيدفعه إلى الاقتراع لفرنجية، بيد أن المفهوم مما يعنيه أن انتخاب خصمه ـ إذا انتُخب ـ لا يجعل منه ذا أهمية: «مكسبا القانونين والموافقة الشفوية على ورقة الأولويات الرئاسية يسهّلان الانتخاب». إلا أنه يضيف: «عندما تُقر اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة مَن يملك أن يتهرّب منها ما إن تصبح بنيوية في النظام. ليس قليلاً أن يقبل بها الشيعة. ذلك سيكون تقدّماً عظيماً».
ما يكشف عنه أيضاً تبلّغه من حزب الله «عدم ممانعة رئيس المجلس للّامركزية الإدارية والمالية الموسّعة بعدما فوتح بها. أي معنى لها من دون موافقته ومن دون موقف شيعي موحّد منها». ما يقوله باسيل أيضاً إن ثمة مساراً ثانياً يحتاج إلى وقت أقل، موازياً للحصول على المكاسب الثلاثة تلك لكنه بديل منها إذا تعذّرت: «نذهب جميعاً إلى مرشح ثالث. لا مرشحنا جهاد أزعور ولا مرشحهم فرنجية، بل ثالث نتفق عليه ليس حتماً جوزف عون ولن يكون». وسواء قوبلت مبادرة برّي برفض مناوئيه لها أو ترحيب حلفائه بها، إلا أنها عكست وجود فوارق غير هامشية وغير ثانوية في المواقف المحوطة بالاستحقاق. بينما يقول رئيس المجلس بحوار يقتصر على بند وحيد أحد هو انتخاب الرئيس، يسهب حزب الله في طلب حوار أوسع يشمل العهد المقبل الذي لا يبصره إلا من خلال مرشحه الوحيد وهو فرنجية. في المقابل يتمسّك الفريق المسيحي بقصر المعضلة على الاستحقاق الدستوري في ذاته والمناداة بجلسات متتالية إلى حين انتخاب الرئيس.
وبينما يبدو برّي أكثر المهتمين بالدور الذي يضطلع به الموفد الرئاسي الفرنسي الخاص جان إيف لودريان بجمع الأفرقاء للتحدث في مواصفات الرئيس بداية ومن ثم إسقاطها على الشخصية الأكثر ملاءمة للمرحلة المقبلة، يتصرف حزب الله كما لو أن انتخاب الرئيس بنداً ثانياً بعد أول هو الأَوْلى عنده في الوقت الحاضر: الحوار الدائر بينه وبين باسيل. حوار كهذا يدير رئيس المجلس ظهره له اعتقاداً منه بتقدم انتخاب الرئيس على ما عداه من التزامات وتعهدات يمكن الخوض فيها لاحقاً في برنامج الحكم الجديد من جهة، ولا يملك الطرفان اللدودان حزب الله والتيار الوطني الحر بمفردهما إلزام سواهما بما يتفقان عليه، خصوصاً إذا تطلّب دوراً من مجلس النواب. ما تحدّث عنه برّي في ذكرى الإمام الصدر الخميس، سبق أن لمّح إليه أمام زواره أكثر من مرة في الأيام السابقة. توقّعه وصول لودريان إلى بيروت تبعاً لما سمعه منه قبل صدور ردود الفعل السلبية على رسائله أخيراً، ملاقاته الموفد الفرنسي في حصر الحوار بانتخاب الرئيس دونما سواه، تقليص عدد الجالسين إلى طاولة الحوار بما لا يزيد على 15 متحاوراً. ما أضاف إليه برّي أن يبدأ الحوار من حيث استقر الخلاف: لكل من الفريقين أو أكثر اقتراح الاسم الذي يرشحه لانتخابه رئيساً ومحاولة إقناعه الآخر من خلال الاحتكام إلى لودريان، إلى حين الوصول إلى المرشح الأكثر استقطاباً. إلا أنه يحبّذ عندئذ، متى تعذّر الاتفاق على اسم واحد، الذهاب إلى جلسات متتالية. ما رمت إليه مبادرة برّي الذي يتقاطع معه عليها حليفه حزب الله إلا أنها تجد جذورها في ما يطالب به الفريق المسيحي، إبراز الفحوى الحقيقي للمعضلة: ـ مع أنه استحقاق دستوري ملزم ومقيّد بمهل أُهدرت أكثر من مرة، بيد أن الأفرقاء جميعاً يتعاملون مع جلسة الانتخاب على أنها حساب سياسي أيضاً مرتبط بخيارات الرئيس المقبل في إدارة التوازنات الحالية، المُعبَّر عنها مرة بعد أخرى من أفرقاء الانقسام باستحالة تقبّل أحدهما الآخر واعتباره شريكاً في الوطن والدولة. ذلك ما يدفع كلاً منهما على الاعتقاد أنه يخوض، في الاستحقاق الرئاسي، معركة خيارات المرحلة المقبلة والموقع الذي سيكون عليه الرئيس الجديد. كل منهما يريد الرئيس إلى جانبه، ما يشي أنه خصم الفريق الآخر. ذلك ما يفصح عنه الطرفان عندما يتمسك كل منهما برفض مرشح الفريق الآخر، دونما طرح مرشح ثالث يصير إلى التوافق عليه. أضحت المعادلة الحقيقية والوحيدة تقريباً: ما دام فرنجية في المعترك فإن أزعور وقائد الجيش العماد جوزف عون فيه إلى أن يغادروا جميعاً أو يسقط اثنان من الثلاثة. في حسبان باسيل معادلة أخرى: «لا وجود لقائد الجيش في حساباته ولا في حسابات حزب الله». ـ إلى اليوم لم يرسل الثنائي الشيعي إشارة إيجابية أو تلميحاً إلى استعداده التخلي عن فرنجية. لم يرسل الطرف المقابل بدوره إشارة إيجابية أو تلميحاً إلى احتمال القبول بالتفاوض على ترشيح فرنجيه. بذلك تدور الدائرة من حول الرجل وحده: لا ترشيحه يقود إلى انتخابه، ولا رفضه يقود إلى انتخاب سواه في ظل إمساك الثنائي الشيعي بالنواب الـ27 ممثلي الطائفة. من دونهم يتعذّر انتخاب أي رئيس للجمهورية، لكن معهم تصعب الموافقة على استبعاد الزعيم الزغرتاوي.