بقلم الدكتور جورج شبلي:
أيّها المُنَكّهون بعطرِ البطولة، عندما دخلتُم على زمنِ لبنان، حَسُنَ نَسلُ الولاء، فأنتم لم تردّوا لهفةَ الأرضِ في أن تُروى بأَرقى الدَمّ، فرشَفَت من شرايينِكم نَثرَ الوفاءِ، واهتزَّت تيهاً، فباتَتْ وأنتم نفساً واحدة.
عندما لم يستطعْ غيرُكم أن ينقلَ في فِعلِ الولاءِ قَدَماً، لأَن ليس للولاءِ عليه سلطان، سلَّمتم سرَّكم للشّهادةِ، وأَرويتم ظمأَ النّهوضِ فيها. وكان بينكم، وبينها، كَلَفٌ، فضمَّتكم إليها بأَوثقِ حبالِ الأنس، وكان لها، منكم، أكثرُ من طَعمة، وأكثرُ من غصَّةٍ عندما سمعَتكم تهتفونَ لها: ” جُعِلْنا فِداكِ “.
يا شهداءَ العزّة،
على صليبِ لبنان، لم تحرقوا مواسمَ الجراح، فتمدَّدَ صلبُكم فوقَ مساحةِ الوطنِ وساماً غاصَ في وجداناتٍ من حقِّها أن ينتابَها، بكم، شعورُ الإِعتزازِ بأنّ على سَيلِ دمائِكم كان خلاصُ الوطن. وقد تكاملَ دمكُم مع وجدانِ لبنان، حتى وصلَ الى إعلانِ شيءٍ كالوصيّة، فالنِّضالُ في سَبكِ العلاقةِ مع الأرضِ يفوقُ مفهومَ البَشَر، وكذلك فِعلُ التّضحية.
ثِقوا، بأنّ جراحَكم التصَقَت بنا، لأنّ ظلَّكم، فيها، طغى على الدّموع، وكوَّنَ ما أدهشَ الخواطر: فأنتم، لم تُخطِئوا المرمى، كالذين اختبروا اليأسَ، والموتَ، والتّلاشي، وتاهوا في الحزنِ والعَدَم، لكنّكم حوَّلتم شهادتَكم، ومن دونِ عجيبة، الى تجربةِ فرح، ودَعَوتم الوطنَ الى تَلَمُّسِ مطايبِها، فلا جدوى من النَّدبِ على شهيدٍ، لأنّ استشهادَه عظيمٌ بِتناسلِ الإيمانِ بلبنان، وما كان الإيمانُ، يوماٌ، إلّا سبيلاً للفرح.
يا عنوانَ الشّموخ،
أنتم تفرَّدتم في آلامِكم، فأيُّ إنسانٍ يسمحُ بأن تنزحَ قوافلُ أيّامِه في هجرةٍ ذاتِ وُجهةٍ واحدة، ومن دونِ الحَنينِ إليها ؟ الحقيقةُ أنّ في تاريخِكم لحظاتٍ لم توجَدْ لغَيرِ دلالة، فاستشهادُكم، بِشموخٍ، شَوَّهَ الضَّعفَ البشريّ، وافتخرَ لبنانُ بانتمائِهِ الى دَمِكم، فغلَبَت فيه كُنيةُ الوطنِ على البلاد.
إنّ الشّهادةَ دائمةُ الإلتصاقِ بالتَحَرُّر، والتحرُّرَ يتطلَّبُ جرحاً، والجرحَ نعمةٌ امتدَّت على الأيام، مَلأى بتطييبِ خوفِ الناسِ من المَصير، لذا، جعلتمُ النّضالَ يتفوّقُ على الأَلم، مُزيلاً كلَّ استعدادٍ للإستسلام.
يا أحبّاءَنا القاطِنينَ في الضّمائر،
إنّ شهادتَكم هي أَقربُ الى الصَّرخةِ، منها الى الدّمعة. فقد أيقظَت المفقودَ في النفوسِ المشحونةِ بأَلفِ هَمّ، وأشرَكتموها في فِعلِ خلاصِ الوطن. شهادتُكم ليسَت مشهداً لِيُخطَف، أو كلمةً لِتُختَصَر، إنّها ثقافةُ المحبّةِ التي يُدرِكُ بها الوطنُ ضالةَ وجودِه. شهادتُكم، وحدَها، اختصرَت طموحَ قيامةِ لبنان، باندفاعِ أبطالٍ انتصروا على الموت، وكانوا إِنتاجاً للرَّجاءِ، غيرِ مسبوق.
أيّها الأحياءُ فينا،
إنّ صناعةَ الشّهادةِ التي طبَعتموها، بالأَغلى، لم تكن، معكم، دعوةً الى الوجعِ وطَأطأةِ الرّؤوس، فهي علَّمَتنا أن نلحسَ من دمِنا طَعمَ العنفوانِ، ونرفضَ سَحقَنا رماداً مَنسيّاً في أكفانٍ محطَّمة. سنبقى، بالرَّغمِ من نَزفِ جَنبِنا، أقوياءَ، بكم، يا مَن تلازَمتم مع الموت، لكنّكم كنتم، وما تزالون، أَفخَمَ إكليلِ شَوكٍ مرَّ فوقَ جبينِ لبنان.