كتب حسين درويش في “الشرق الأوسط”:
لم يجد السوري فادي ش. (24 عاماً) بعد وصوله تهريباً إلى بعلبك غير دولار واحد في جيبه، لشراء ما يسد رمقه من السوبرماركت. استنزفت رحلة نزوحه من حمص إلى البقاع كل إمكاناته، وأنهت الـ100 دولار التي أرسلها لها عمه ليدفعها لمهرب، كي ينقله إلى داخل لبنان. يبحث في السوبرماركت عما يأكله بـ«أقل تكلفة ريثما أجد عملاً، بدءاً من صباح الغد»، كما قال لـ«الشرق الأوسط»، حينما التقته الجمعة الماضي.
فادي واحد من عشرات السوريين الذين يعبرون إلى الأراضي اللبنانية يومياً، ضمن موجات النزوح الجديدة، هرباً من الوضع الاقتصادي في بلدهم. ينسق هؤلاء مع مهربين ينقلونهم بالخفاء عبر مسالك غير شرعية إلى داخل الأراضي اللبنانية، وهي قضية استدعت استنفاراً سياسياً وأمنياً في الداخل اللبناني، لمنع هذه الظاهرة التي تفاقمت خلال الأسابيع الأخيرة.
رحلة 13 ساعة
وصل فادي إلى بعلبك بعد رحلة شاقة، امتدت لـ13 ساعة. ويقول إنه انطلق بعد منتصف الليل من حمص عبر آلية، ثم إلى شنشار في ريف حمص بآلية أخرى، ومنها إلى بساتين حيث تمت رحلة العبور سيراً على الأقدام عبر معابر غير شرعية ومسالك وعرة، لكن تم تجاوزها بسهولة «لأن المهربين يعرفون النقاط المخفية عن أعين الأمنين السوري واللبناني».
ويسير العابرون لساعات أحياناً بين الحقول والبساتين للوصول إلى العمق اللبناني. دخل فادي من معبر غير شرعي شمال الهرمل في أقصى شمال شرقي لبنان، مع مجموعة ضمَّت 17 سورياً، معظمهم من الشباب الباحثين عن عمل. توزعوا لدى وصولهم إلى الأراضي اللبنانية؛ إذ لجأ بعضهم إلى مخيمات النزوح السوري في البقاع حيث باتوا عند أقرباء لهم، في حين لجأ آخرون إلى منازل يقطنها أقرباء لهم في قرى بعلبك.
أزمة اقتصادية
الوضع الاقتصادي هو الدافع الوحيد وراء نزوح فادي. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «هربتُ من جحيم الوضع الاقتصادي. من وحش الغلاء في سوريا الذي أصبح لا يُطاق، ولا مقدور لنا للعيش بسبب الغلاء وتراجع قيمة الليرة السورية بشكل كبير، وهو ما يهدد بفقدان الغاز ومحروقات التدفئة على أبواب الشتاء». ويضيف: «الحياة أصبحت قاسية جداً في سوريا بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الواحد إلى 14 ألف ليرة سورية، بينما لا تتخطى أجرة العامل في الزراعة والبناء في سوريا الثلاثة دولارات يومياً (40 ألف ليرة سورية)»، بينما ارتفعت أسعار الغذاء، حيث «وصل سعر كيلوغرام البندورة والعنب والبطاطا إلى أكثر من 3000 ليرة، وبلغ سعر غالون الزيت 110 آلاف ليرة (8 دولارات)، وارتفع سعر كيلوغرام السكر إلى 13 ألف ليرة (نحو دولار واحد)».
ويقول فادي إن هذه الأوضاع دفعته إلى ترك عمله في حمص. ويوضح أنه لم يستطع تأمين تكلفة الهروب، فاستنجد بعمه المقيم في خارج سوريا الذي أرسل له مائة دولار دفعها لمجموعة تهريب مؤلفة من لبنانيين وسوريين، كي يتمكن من تحسين وضعه الاقتصادي والعمل في لبنان. وبالفعل، وجد ضالته في لبنان، حيث استطاع أن يجد عملاً في اليوم التالي لوصوله، حيث أشار، يوم الأربعاء، إلى أنه بدأ العمل في تلييس البناء، ويتقاضى أجراً بقيمة 8 دولارات يومياً.
وتؤكد مصادر أمنية لبنانية الرقم الذي دفعه فادي، وتلحظ من خلال التحقيقات مع موقوفين من الهاربين عبر الحدود، أرقاماً أكبر. ويشير مصدر أمني لـ«الشرق الأوسط» في البقاع إلى أن المبالغ التي تتقاضها عصابات التهريب عن كل فرد «تتراوح ما بين مئة دولار و600 دولار، وتتفاوت وفق قوانين الرحلة؛ سواء أكانت في قافلة، أو عمليات نقل أفراد، أو حتى في سيارة المهرب نفسه».
ويشير المصدر الأمني إلى أن بعض الذين يدخلون إلى لبنان خلسة «يستخدمون الأراضي اللبنانية ممراً للترانزيت إلى الدول الأوروبية وتركيا ومصر أو اليونان، عن طريق البحر والمطار، وتتولي أمورهم عصابات تعمل على تأمين السكن لهم في لبنان قبل ترحيلهم إلى الخارج»، لافتاً إلى أن بعضهم «وقع في قبضة الأجهزة الأمنية».
نزوح ثانٍ
غير أن الوضع الاقتصادي يبقى الدافع الأساس للنزوح إلى لبنان. وتقول سامية (32 عاماً) إنها وصلت الثلاثاء مع ولدها محمد (عامان) إلى مخيم قرب بعلبك عن طريق تهريب غير شرعي، بعدما كانت في وقت سابق قد عادت إلى سوريا لتعيش في كنف عائلتها ظناً منها أن الوضع الاقتصادي في سوريا أفضل من لبنان. وعادت مجدداً إلى لبنان قاصدة سهل البقاع هرباً من «الوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءاً في سوريا»، كما تقول، لتسكن مرة أخرى مع زوجها الذي يعمل سائق شاحنة، ويحول لها الأموال من لبنان إلى سوريا.
تقيم سامية اليوم في خيمة كانت قد هجرتها إلى سوريا، لتعود إليها اليوم بعد شهرين عن نفس طريق التهريب ونفس المهربين، وتقول: «عندما غادرت إلى سوريا قبل شهرين عن طريق مهربين كي أعيش هناك مع أهلي وعائلتي، كان الوضع أفضل من اليوم، لكن الوضع الآن أصبح أكثر سوءاً؛ فالحياة أصبحت جحيماً لا يُطاق، وهذا ما دفعني كي أعود مجدداً إلى لبنان».
وتشير سامية إلى أن تكلفة الرحلة بدل الدخول من سوريا إلى لبنان هي 200 دولار أميركي تقاضاها المهربون في رحلة الذهاب كما رحلة الإياب.
تحرك أمني
وتحركت السلطات اللبنانية لإحباط محاولات العبور غير الشرعية. وقالت قيادة الجيش في بيان إنه «في إطار مكافحة تهريب الأشخاص والتسلل غير الشرعي عبر الحدود البرية، أحبطت وحدات من الجيش، بتواريخ مختلفة خلال الأسبوع الماضي، محاولة تسلل نحو 1100 سوري عند الحدود اللبنانية – السورية».
وتمتد خطوط التهريب على مساحة كبير، وتبدأ من الصويري جنوباً في البقاع الغربي، إلى أقصى شمال شرقي لبنان، وعلى كامل المنطقة الحدودية في الشمال، حيث يُعدّ التهريب أسهل، بالنظر إلى الغطاء النباتي الذي يخفي المتسللين.
وقال مصدر أمني لـ«الشرق الأوسط» في شرق لبنان إن الجيش اللبناني، ومن خلال فوج الحدود البري، وبمساعدة دوريات من المخابرات، تمكن من ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية، وأقام الحواجز الموازية للطرقات الدولية في البقاع الشمالي منعاً لدخول موجات جديدة من النازحين، بعدما شهد الأسبوع الماضي انفلاتاً أمنياً، لافتاً إلى أن الهاربين إلى لبنان هم مِن جميع المناطق السورية دون استثناء. وقال المصدر إن الأشخاص الذي يضبطهم الجيش يعيد ترحيلهم عبر الحدود مرة أخرى.
ضغوط سياسية
تتصاعد الضغوط السياسية الداخلية لوضع حد لموجة النزوح الجديدة، حيث طالبت «القوات اللبنانية» الحكومة بـ«اتخاذ كل التدابير اللازمة والضرورية والملحَّة وبكل دقة لمنع أي تسلل من سوريا وتحديداً من الجهتين الشمالية والشرقية من الدخول إلى لبنان، خصوصاً أن المطلوب من الحكومة معالجة أزمة اللاجئين القائمة وليس مفاقمة هذه الأزمة».
وقالت في بيان صادر عن دائرتها الإعلامية: «للتذكير، فإننا لم نلمس أي خطوات عملية تترجم من خلال بدء إنهاء أزمة اللجوء السوري في لبنان، بينما المطلوب بالتوازي مع منع التسلل من سوريا باتجاه لبنان، إعادة اللاجئين فوراً من لبنان باتجاه سوريا».
من جهته، أكد النائب سامي الجميل أن اللبنانيين «قدموا كثيراً من التضحيات منذ 12 سنة لتأمين ملاذ للسوريين، وهم يطالبون اليوم بوضع حد لهذه الأزمة وعودتهم إلى بلدهم أو إعادة توزيعهم على دول أخرى تشارك لبنان العبء الذي لم يعد باستطاعته أن يتحمله منفرداً».
بدوره، قال عضو «تكتل الجمهورية القوية»، النائب رازي الحاج: «لا ينفك المهربون السوريون عن الاحتيال وابتداع الوسائل كي يستطيعوا تنفيذ عمليات تهريب الأشخاص كما البضائع»، وأضاف: «لطالما طالبنا الدولة اللبنانية، واليوم أكثر من أي يوم مضى، نطالب بضبط الحدود البرية الشرعية وغير الشرعية».
وتابع الحاج: «آن الأوان لتنفيذ هذه الإجراءات واتخاذ خطوات جدية في هذا المجال. عمليات التهريب واحدة من أبرز علامات تحلل الدولة في القيام بواجبها»، سائلاً: «إلى متى سيستمر هذا التعاطي اللامسؤول مع هذا الملف، ولبنان لم يعد يتحمل هذا التدفق من السوريين، ونحن بأمسّ الحاجة لعودة مئات الآلاف القابعين هنا منذ سنوات».