كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
دقّ ما يقارب الـ115 قاضياً وقاضية ناقوس الخطر قبل أسبوعين على بداية السنة القضائيّة؛ معلنين توقفهم القسري عن العمل وعن الإلتحاق بقصور العدل «المتهالكة» بداية الأسبوع المقبل، ما لم يعمد المعنيون إلى اتخاذ الإجراءات الحسيّة الكفيلة بإنصافهم، وإعادة تأمين أبسط مقومات عيشهم الكريم والعمل بكرامة.
ورغم أنّ تداعيات الأزمة السياسيّة – الماليّة غير المسبوقة في تاريخ لبنان لم توفّر أيّاً من القطاعات الأساسيّة، إلّا أنّ تردداتها على السلطة القضائيّة آخذة في التوسع يوماً بعد آخر. وتتجدد بذلك الأزمة القديمة – الجديدة التي أدّت إلى إقفال قصور العدل ما يقارب 6 أشهر خلال السنة الماضية. وهذا ما دفع ببعض القضاة إلى التساؤل عما إذا كان هناك من مخطط ضمني لضرب السلطة القضائية التي تفتقد استقلاليتها الماليّة والمعنوية، تمهيداً لإخضاع قضاتها لإملاءات المنظومة السياسيّة الحاكمة، المتورطة في تفجير المرفأ، والكثير من ملفات الفساد، وليس آخرها محاكمة الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة وشركائه في تبديد أموال المودعين.
وإن كان إمعان السلطة السياسية في التدخل بعمل مجلس القضاء الأعلى يحول دون إعادة الإنتظام إلى عمل السلطة القضائيّة العاجزة عن إقرار التشكيلات التي يصبو إليها مجلسها الأعلى، إلّا أنّ تخاذل المعنيين في اجتراح الحلول الكفيلة بتأمين الإستقرار المالي والصحي والتعليمي لما يقارب 620 قاضياً وقاضية وعائلاتهم، أسوة بالضمانات الطبية والتعليمية التي استطاع قائد الجيش تأمينها لما يقارب الـ90 ألف ضابط وعسكري في المؤسسة العسكرية، وضع القضاة أمام خيارات ثلاثة صعبة، يستحيل معها الإستمرار في تأدية عملهم، وهي:
– تحوّل القاضي إلى مرتشٍ وفاسد.
– ترك العمل، أكان عبر الإستقالة أو إجازات من دون راتب، أو تقديم طلبات استيداع والبحث عن فرص عمل في الخارج، وهو ليس بالأمر اليسير.
– وضع القاضي أمام حتميّة العيش في الذل، وحرمانه أبسط شروط العمل في المحاكم، المترافقة من إنقطاع الكهرباء وغياب وسائل التبريد والتدفئة…
وتلفت أوساط القضاة الرافضين التأقلم مع حتمية هذه الخيارات، الى أنهم ليسوا هواة إضراب، مع تأكيدهم أنّ السلطة السياسيّة تجبر القضاة على اتخاذ هذا الخيار. وربط البعض من بينهم الإنضمام إلى «المعتكفين» بما سيحمله مجلس القضاء الأعلى إلى الجمعية العمومية المزمع عقدها بداية السنة القضائية، بعدما سارع رئيس المجلس القاضي سهيل عبود للإعلان أنّ «مطالب القضاة محقة ونعمل على تحقيقها». كما أكد البعض الآخر المطالب والخطوات التصعيدية، وبقي متحفظاً عن تداول اسمه ضمن لائحة المعتكفين.
ويرفض القضاة العودة إلى سياسة لحس المبرد والرهان على وعود كلامية ظرفية وغير مستدامة، بعد خسارة المكاسب التي دفعتهم إلى تعليق الإضراب في السابق وإعادة رفع المطالب ذاتها. وهذا ما ينذر بتعذر إنطلاق السنة القضائية بانتظام، ما ينعكس على الإستنسابية في عمل المحاكم وما ينجم عنها من تداعيات سلبية على تراكم الدعاوى القضائيّة، وازدحام في السجون وتوقيف معاملات المواطنين والدوائر المرتبطة بالسلطة القضائية.
مهلة للمسؤولين
ويربط أحد القضاة المعتكفين، توقيت إعلان خطوتهم التصعيدية بداية أيلول، في إطار إعطاء مهلة للمسؤولين لتدارك الأسوأ قُبَيل إنطلاق السنة القضائية في 18 أيلول الجاري، وتجنّب شلّ العدليات وإلحاق المزيد من الضرر بالمتقاضين ومصالح المواطنين. قبل أن يتوقف عند كيفيّة تحقيق الوعود التي تنادي بإنصاف القضاة، بعد اكتشافهم أنّ ميزانية وزارة العدل في مشروع موازنة العام 2024 لا تتعدى 0.32 في المئة من إجمالي الموازنة.
وهذا ما دفع إلى التساؤل أيضاً عن كيفيّة قبول وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، والوزراء – القضاة بأن لا تتعدى ميزانية ثالث سلطة دستورية في لبنان الـ1 في المئة من إجمالي الموازنة، واعتبار تقصير الحكومة ومجلس النواب تجاه إعطاء القضاة حقوقهم يعادل سوء النيّة! وذلك بالتزامن مع تعليق وزير العدل إنتداب ما يقارب 100 قاضٍ من خريجي الدفعات الثلاث الأخيرة إلى المحاكم، جراء الخلافات الضيقة على إسناد المراكز الحساسة إلى المحسوبين على السلطة السياسية. وهذا يحرم المحاكم انتاجية القضاة الجدد، في ظل تكدس الملفات على القضاة الآخرين.
ولا يخفي القضاة إمتعاضهم من وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى ورئيس صندوق تعاضد القضاة، جراء عدم المبادرة إلى المطالبة بتحسين أوضاع القضاة والتحرك قبل إطلاقهم صرختهم التحذيرية، بعدما أصبح راتب القاضي يتراوح ما بين 200 و500 دولار أميركي لا غير، والتعويضات الإستشفائيّة والتعليمية تدنت إلى ما يقارب الـ10 في المئة بعد أن كانت التغطية الإستشفائية قبل الأزمة تناهز الـ100 في المئة، والتغطية التعليمية الـ90 في المئة.
وفي ظل عجز الصناديق الضامنة عن الإيفاء بالخدمات الملقاة على عاتقها ومنها الإستشفائية، سُجّلت لامبالاة، بل رفض صندوق التعاضد منذ بداية الأزمة قبل 5 سنوات، إجراء عقد مع إحدى شركات التأمين الصحي، تضع القضاة وعائلاتهم في منأى عن توسّل الإستشفاء من الجهات المختصة، التي تعمد بدورها إلى الإتصال بالمستشفيات من أجل إستقبال المرضى من بينهم وتأمين الرعاية الطبية لهم ولعائلاتهم، ما يفقد القاضي استقلاليته أمام سلطته القضائية، كما أمام السلطة السياسية.