كتب الدكتور جورج شبلي:
إنّ المشروعَ التّنويريَّ للعقلِ، يسعى الى بناءِ إنسانٍ نَهضَويٍّ واعٍ، مُتَخَلِّقٍ بالنُّبل، شَغوفٍ بالحقّ، يُحيي وَهجَ الحريّة، ويَستَنِدُ الى قامةِ القِيَم. ومن البَدهِيِّ أن ينسجَ هذا الإنسانُ ملامحَ الرُقيِّ، والتطوّر، ويرتبطَ ارتباطاً كيانيّاً بناموسِ الإنسانيّة، ليتحرَّرَ من الحُجُبِ التي، لطالما، انتصبَت بينَ حقيقةِ الذّاتِ وبينَ نَهجِ الغريزة. لذلك، كان مُفتَرَضاً، على الإنسانِ القديم، أن يخلعَ، عنهُ، الثّوبَ الذي أَلبَسَه إيّاهُ تَحالُفُ الحقدِ والبغض، ليُقيمَ، في قلبِهِ، عَرشاً للمحبّةِ، واحترامِ كرامةِ الآخر، والتزامِ الشِّركةِ معه، للسَّيرِ بمقتضاها، وُصولاً الى مقامِ الحريّةِ والحضارة.
لقد باتَ واضحاً أنّ التقدّمَ الحضاريَّ لم يَعْنِ شيئاً لأولئكَ القابِعينَ في عزلةِ أهلِ الكهفِ، بمنأى عن حركةِ العالَم، وعن ارتقاءِ الحياةِ من أكفانِ التَحَنّطِ في الجهل، أو من ” الحفرةِ الآدميّةِ ” كما يقولُ جبران في ” آلِهَةِ الأرض “، الى يقظةٍ ترمقُ وجهَ النّور، وتنقلُ المجتمعَ من التّقليدِ البالي الى التَفَتُّحِ، والتحرُّرِ، ومدلولاتِ النّهضة. فالقابِعونَ في تُرَّهاتِ التّقاليد، وفي ذواتِهم القَفراء، عبيداً للتَزَمُّتِ والعصبيّة، قد عقدوا حِلفاً مع جحيمِ التَخَلّف، ورفضوا التَطَهُّرَ من الظّلمة، والإرتقاءَ الى النُّضج، والتَّوقَ الى المصالحةِ مع الحياةِ التي وَجهتُها أماميّة، دائماً، فتمدَّدوا تحتَ إِبطِ الإنحطاط، شُركاءَ له في عبوديّتِهم، قابِعين في جهلِهم المُحَتَّم، ناموسُهم ذِئبُ الإعتداءِ، وسَفكُ الدِّماء، فلا أَملَ في تحويلِ عالَمِهم من البكاءِ الى الرّجاء.
من الطّبيعيِّ أن نفهمَ المطبوعينَ على الجهلِ، وهم رهائنُ للقوالِبِ، كيفَ يتحوَّلونَ جزّارينَ طُغاةً، يُكَوِّمونَ ضحاياهم المقهورين بدونِ انفعال، فهم أجهزةٌ آليّةٌ مُفرَغَةٌ من الطّموح، ومن قِيَمِ النّهوضِ الى فجرِ الدّنيا. لذلك، لا يمكنُ للحياةِ، معهم، أن تكونَ مادةً في تَحَوّلٍ دائم، ومسألةً مستقلَّةً عن مظاهرِ الرّجعيّة، إنّها، في عِرفِهم، مجموعةُ أُصولٍ وعقائدَ جامدةٍ، تشكّلُ مقياساً مُطلَقاً وحيداً لِلَيلٍ طويلٍ ثَقيل، يرسمُ للنّاسِ مسموحَهم وممنوعَهم. ووَيلٌ لِمَنْ يتنبّهُ الى تطلّعاتٍ إرتقائيّةٍ تُخلِّصُهُ من رعبِ هذا النّظامِ الرجعيِّ المسعور.
في هذا الحَيِّزِ الهولاكُوِيّ، نشأَت مهسا أميني رافضةً غربَتَها عن الحياة، متحمِّسةً لقضيّةِ حقِّ الإنسانِ بالتَمَتُّعِ بالحريّةِ، والسّعادةِ، وبأَمَلِ الإرتقاءِ الى آفاقِ الدّنيا المتجدِّدة، فلم تكنْ صرختُها هَوَساً، ومظهراً فوضويّاً، بِقَدرِ ما كانت موقفاً ثوريّاً يعكسُ وَضعَ شَعبٍ مقهورٍ، احتوى في ذاتِهِ طاقةً على الإنطلاقِ الى الجديدِ الصّالحِ الذي له علاقةٌ وثيقةٌ بمجرى الحياةِ النّاهضةِ الى التقدّم، وذلك، بالخروجِ على التّقليدِ البالي، وعلى أساطيرِ الماضي النّاووسيّة.
إنّ اللّافتَ في رسالةِ مهسا أميني كان التزامَها الواضحَ بالمواجهةِ الجريئة، وبحيويّةٍ نابضةٍ استطاعَت أن توقِظَ وجدانَ آلافِ النّاسِ في طولِ بلادِها وعَرضِها، ما أَثبتَ، بلا شَكّ، أنّ غالبيّةَ القَومِ، هناك، توّاقةٌ الى الحريّةِ، والى آفاقٍ جديدةٍ رَحبةٍ قائمةٍ على النّهضةِ والرقيّ. ولعلَّ مهسا أميني، في مواجهتِها القَمعَ، والقتلَ، حوّلَت أماني النّاسِ من مجازٍ الى حقيقة، لأنها أيقظَت مواسمَ التّغيير في نَمَطِ حياتِهم الفارغِ، والمفروضِ بالتسلّطِ، والتّرهيبِ، وقيودِ الأصوليّة، وفوَّهةِ التّدجين.
إنّ الحريّةَ مُخيفة، بل مُرعِبة، وهي، في عِرفِ الديكتاتوريّين، الكارثةُ بعَينِها، لذلك، وضعَ هؤلاءِ الحريّةَ تحت المقصلة، وشَنّوا عليها حرباً استخدموا فيها أنواعاً مختلفةً من الأسلحة، وفي مقدّمِها الإغتيالُ، والنّفيُ في غياهبِ الزّنازن، فباتَت الحريّةُ، مع تلكَ الخلطةِ الهجينةِ من أهلِ الأذى، ذبيحةً مُدَنَّسة. في مقابلِ هذه الحالِ المتردّية، كانت مهسا أميني فرصةً للإِقدامِ على صَحوَةٍ تفضحُ نظاماً باطلاً يتستّرُ بالحقّ، ونقلةً نوعيّةً الى الإنتفاضةِ على الذين يتقمّصونَ دَورَ الآلهة، وصرخةً تقضُّ مُفتَرِسي النّاس، وتقولُ لهم : يا غُلاةَ المُتَديِّنين المُزَيَّفين، إنّ حَلبتَكم سوف تصبحُ فارغة، فالحريّةُ لم تَعُدْ مجالاً تَستبيحونَه، وتحاولون تَطبيعَه بالخوف.
من هنا، أَمسَت مهسا أميني في دائرةِ النّار، ورَقماً في جدولِ القتل، لأنها جاهرَت بغَيرِ ما هو مَسنونٌ وموجَبٌ في إرثٍ انتقلَ الى غوغائيّين عشائريّين فامتلكوهُ، وعاثوا فيه تشويهاً، وتأويلاً من دون حساب. وقد ظنّوا أنّهم، باغتيالِ مهسا، سوف يُجهضونَ لهجتَها، ليستمرَّ النّاسُ في عصرِ الظّلام، لكنّهم فوجِئوا بأنّ الشّهيدةَ مهسا، كانت تذكرةَ افتتاحِ زمنِ التّنوير، واكتسبَت صفةَ الحَدَثِ التّاريخيّ الذي عَلِقَ في أذهانِ النّاسِ، ووثيقةً مُدَوَّنةً في شرعةِ حقوقِ الإنسان، تستحقُّ أن تُحفَظَ في وجدانِ الحريّة، ما دامَ للحريّةِ نَبض…