كتبت زينب حمود في “الأخبار”:
الهدوء الذي يلفّ التعليم الخاص في لبنان لا يعكس الجمر الكامن تحت الرماد، إذ ينطلق العام الدراسي بأعداد طلاب تفوق قدرة المدارس الخاصة على الاستيعاب، بعد النزوح من التعليم الرسمي. والأهم، بنقص فادح في أعداد الأساتذة والمعلمين، من شأنه أن يعطّل سير العملية التعليمية في بعض المدارس، ويجعل التعليم في «الرسمي» و«الخاص» متساوياً في المأساة التربوية.
تظهر جولة على صفحات التوظيف في مواقع التواصل الاجتماعي حجم التخبّط الذي تمرّ به المدارس الخاصة في مختلف المناطق. فمع عودة الطلاب إلى صفوفهم، لا تزال مدارس في بعبدا والحدث ورأس النبع والشويفات وكسروان… تبحث عن أساتذة في بعض المواد، وأحياناً عن طاقم تعليمي كامل لكل المواد والصفوف.
«لا أحد يريد أن يعمل في مجال التعليم»، خلاصة توصّلت إليها راما، منسّقة العلوم في مدرسة في برج البراجنة، بعدما شارف العام الدراسي على الانطلاق قبل تأمين معلمتَي العلوم والرياضيات. لم يخطر في بالها أنّ عرض العمل الذي تعيد نشره في صفحات الواتساب والفايسبوك للمرة التاسعة لن يغري أحداً. «ترد اتصالات من مهتمين يستفسرون عن الراتب ويختفون بعدها».
لا تحتاج المدارس إلى جهد لتعي أنّ عزوف الأساتذة عن التعليم سببه الرئيس عرض رواتب زهيدة. فرغم وعود إداراتها بتصحيح أجور معلميها بعد رفع الأقساط المدرسية، وجد الأساتذة أنفسهم قبل بدء العام الدراسي بأسابيع «مكانك راوح»، إذ لم تلتزم كثير من المدارس بصرف الرواتب التي وعدت بها. زينب، معلمة رياضيات للحلقة الأولى، قدّمت استقالتها بعد 12 عاماً من التعليم في بيروت، لأن المدارس «تتّفق على استعباد الأساتذة، وعرض رواتب تراوح بين 200 و300 دولار، تشمل بدل النقل، لذلك قرّرتُ أن أقعد في البيت». فيما تروي معلمة في إحدى المدارس في المنية أنها قبلت براتب 100 دولار، «أحسن ما آخذ مصروفي من والدي».
ولتعويض النقص، تلجأ المدارس إلى «الترقيع». فتغطي النقص في الطاقم التعليمي عبر تكثيف مهام الأساتذة «الصامدين» وزيادة حصصهم التعليمية، حتى صارت معلمة اللغة الإنكليزية للمرحلة المتوسطة، مثلاً، تعلّم طلاب المرحلة الابتدائية. هذا المخرج المؤقّت (أو الدائم؟) يزيد الضغط على الأساتذة ويؤدّي إلى انفجار العلاقة المهتزّة أساساً مع إدارات المدارس. فيتحول الحل إلى مسبّب آخر لإفراغ المدارس من معلميها. كذلك تحوّلت المدارس من البحث عن ذوي الخبرة إلى «المتخرّجين الجدد»، كما تطلب إحدى المدارس صراحة، لأنهم يقبلون بالقليل ولا يعون حقوقهم في العمل. وإلى ذلك، لم يعد تجديد الطاقم التربوي أمراً واقعاً جراء مغادرة الأساتذة، بل أضحى خياراً تتخذه بعض المدارس لتتهرّب من مسؤولياتها تجاه موظفيها، ولا سيما صرف الرواتب على مدار 12 شهراً.
يلحظ رئيس نقابة المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض النقص في أعداد الأساتذة في المدارس الخاصة لكثرة ما وردته أسئلة من مدارس «محروقة» على معلمة أو أستاذ. ويعزوه إلى «تدني رواتب الأساتذة التي تراوح بين 200 و500 دولار، وغياب التأمين الصحي، وتهالك صندوق التعويضات». ويأسف لـ«مغادرة المعلمين الأكفاء بحثاً عن مهنة أخرى أو عن بلد آخر». برأيه، «من بقي هم الكبار في السن ممن تضيق الفرص أمامهم أو من لا يجيدون أعمالاً أخرى، فيعملون على قاعدة أنّ القليل أفضل من الحرمان، ومتى تسنح لهم الفرصة لا يقصّرون في المغادرة». ويفضّل كثير من الأساتذة «ثلاث ساعات من التعليم الخصوصي الحرّ على التعليم بدوام كامل في مدرسة وتحمّل عناء تحضير الدروس وتصحيح الاختبارات، مقابل الحصول على الأجر ذاته».
تحوّلت المدارس من البحث عن ذوي الخبرة إلى «المتخرّجين الجدد» لأنهم يقبلون بالقليل
هذا يعني أنّ إفراغ كثير من المدارس من معلميها سببه ليس إعادة توزيعهم على المدارس كما أعيد توزيع الطلاب على المدارس الأقرب إلى مكان السكن، فـ«واقع المهنة واحد، وتكاد تُعَدّ على الأصابع المدارس التي تعطي رواتب جيدة تصل إلى 1000 دولار في بيروت وجبل لبنان». لكنه يعود إلى هجرة المهنة كليّاً، «في السنة الماضية، غادر 20% من أساتذة التعليم الخاص إلى الخارج، إلى جانب فئة استبدلت التعليم بمهنة أخرى»، كما يقول محفوض.
من أجل «تقطيع» العام الدراسي وحتى إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة تلحظ الانهيار وترتبط، من خلال وحدة التشريع، بقدرة الدولة على تحسين رواتب الأساتذة في التعليم الرسمي، «اقترحتُ عدم القبول برواتب لا تجري دولرتها بنسبة لا تقلّ عن 30% إلى 35% من قيمتها، وتصل إلى 60% خاصة في بيروت وجبل لبنان. وحرّضت الأساتذة في زغرتا الذين قصدوني على عدم دخول الصفوف قبل التزام المدرسة بدولرة 35% من رواتبهم، على أن تدعم النقابة تحركهم»، بحسب محفوض.
في حالات نادرة، ينجح 10 أساتذة يطالبون بحقوقهم في تحسين ظروف عمل 100 أستاذ، لكنّ الحالة العامة في ظلّ اهتراء الجسم النقابي في قطاع التعليم، كما في قطاعات أخرى، تسقط الأمل بتكتل الأساتذة والضغط على إدارات المدارس لانتزاع حقوقهم. التعليم في لبنان لم يعد حقاً ولا رسالة تربوية بل تجارة، الرابحون فيها دائماً هم أصحاب المدارس، والخاسرون هم الأساتذة والطلاب.