كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
لم يعرف خليل سبب الحساسية الصدرية المستجدّة التي باتت ترافق أيامه. لم يشهد سابقاً ذلك السعال المتكرّر المزعج الذي يصيبه صباحاً ويعاوده عصراً إلى أن بدأ يلاحظ أن السعال والقحّة وضيق التنفّس أعراض تصيبه في أوقات محدّدة يكون فيها في موقف السيارات الواقع تحت المبنى الذي يسكن فيه. حقّق في الأمر واستعلم ووجد أن الباركينغ خطر مخفيّ، قلّة تعرف أضراره. خطر صحّي لا يتنبّه له من يتعرّضون له وخطر بيئي لا ينبّه إليه المعنيون بأمره.
في زحمة المشاكل الكثيرة التي يرزح تحتها لبنان، فإن مشكلة بيئية بالزائد قد تمرّ مرور الكرام دون أن يتنبّه لها أحد حتى ولو تركت آثاراً ثقيلة على من يتعرّض لها. مواقف السيارات تحت الأرض واقع لا يثير الريبة ولا يهدّد بمخاطر أمنية لكن بالنسبة للمختصين فإن أضراره قد تفوق المخاطر الأمنية لتمسّ صحّة المواطن والمجتمع. وفي غياب الرقابة والصيانة، يمكن للمواقف تحت الأرض أن تتحوّل الى بؤر تلوّث شديدة الضرر.
في غياب الصيانة مخاطر لا تحصى
في المبدأ، تخضع مواقف السيارات الواقعة تحت الأرض لشروط هندسية وتقنية صارمة ولا تمنح أي رخصة لتشييد موقف إلّا إذا كان مطابقاً للشروط، كما لا توقّع نقابة المهندسين على الرخصة إلّا بعد الكشف على الخرائط والتأكّد من مطابقتها قواعد سلامة البناء. المشكلة إذا لا تكمن على الورق ولا حتّى في التطبيق بل في الإهمال الذي يصيب هذه المواقف بعد سنوات من بنائها. واليوم مع غياب التيار الكهربائي عن أجهزة شفط الهواء وارتفاع كلفة صيانتها ومع تآكل الباطون وعدم مراقبة نوعيته وكثافته وغيرها من المشاكل، من يضمن أن يكون موقف السيارات لا يزال صالحاً ولا يشكل خطراً على من يستخدمه؟ في معظم المستشفيات والمولات والمراكز السكنية والتجارية الكبرى، تخضع مواقف السيارات الواقعة في الطوابق الأولى والثانية والثالثة وصولاً الى الخامسة والسادسة تحت الأرض لرقابة دائمة وصيانة دورية بلا شك، ولكن في الأبنية السكنية التجارية وبعض المجمعات التجارية المتعثرة والمنتجعات السياحية القديمة صارت هذه المواقف مرتعاً لمخاطر كثيرة.
خرائط البناء الهندسية والميكانيكية والكهربائية يجب أن تقدّم الى نقابة المهندسين لتوافق وتوقّع عليها عند تقديم الملفّ وفق ما يقول المهندس المعماري ميشال أبي نادر. وبالنسبة إلى مواقف السيارات ولا سيما في المشاريع الكبيرة والتي تتضمّن عدة طوابق تحت الأرض، فلا بدّ أن تكون مزوّدة بمضخّات لضخّ الهواء النقي وشفط الهواء الموجود فيها المثقل بانبعاثات السيارات من أول وثاني أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت وغيرها من الجزيئيات الملوّثة. ويجب على هذه التوربينات أن تضخّ الهواء وتشفطه بشكل متوازن من مختلف أرجاء الموقف… ولكن هذا النظام الحيوي الذي يؤمّن جودة الهواء في الموقف يبطل مفعوله إذا لم تخضع التوربينات لصيانة دورية، إذ تتّسخ الفلاتر فيها وتنغلق مسامها فلا تعود قادرة على شفط الهواء أو ضخّه. وفي حال تعطّلت هذه التوربينات، فإن كلفة تصليحها باتت مرتفعة بحيث يتجنّب بعض أصحاب المباني القيام بذلك ويفضلون تركها على حالها. من جهة أخرى يحتاج تشغيل هذه المضخّات الكبيرة الى كمية من الطاقة الكهربائية قد لا يكون المولد الكهربائيّ قادراً على تأمينها أو أن كلفتها عالية وهي لا تعمل في أوقات كثيرة. لذلك وفي غياب مسارب تهوئة طبيعية كالنوافذ أو الفتحات لا سيّما في الطوابق الواقعة تحت الأرض تزداد نسبة الانبعاثات الضارة والملوّثات داخل الموقف لا سيما تلك الناجمة عن احتراق الوقود الأحفوري المستخدم في السيارات. وكلما كان عدد السيارات في الموقف كبيراً وحركة دخولها وخروجها متواصلة كانت الانبعاثات أشدّ وتكفي أحياناً سيارة واحدة بمحرّك متعب غير صالح يحرق الزيت مع الوقود لتشكّل غيمة تلوّث يصعب قياس نسبة ضررها.
بلا معاينة ميكانيكية خطر السيارات يصيب المواقف
يقول الخبير البيئي ورئيس جمعية «غرين غلوب» سمير سكاف إنه كلّما كانت السيارات قديمة الطراز والتقنيات، ازدادت نسبة الانبعاثات الضارة من عوادمها. ومعلوم أن نسبة كبيرة من سيارات لبنان اليوم لا يقلّ عمرها عن 10 الى 15 سنة ما يعني أن محرّكاتها باتت في حالة متعبة ونسبة الانبعاثات منها أعلى بكثير من السيارات الجديدة والحديثة التي تتمتّع بفلاتر وcatalyseur وتقنيات لحماية البيئة. ومع غياب المعاينة الميكانيكية منذ سنوات لم يعد بالإمكان ضبط الانبعاثات من السيارات كما لم يعد بالإمكان التأكّد من حالة الإطارات التي تتآكل مادة الكاوتشوك فيها عند احتكاكها مع الأرض الأسمنتية وتصدر جزيئيات ضارة تضاف الى الغبار المنبعث من السيارات. لذا وعند تجمّع عدد من هذه السيارات في مواقف مقفلة تحت الأرض لا تتمتّع بأنظمة شفط وتهوئة مناسبة، فإن تكثّف الانبعاثات الصادرة عنها عند إدارة المحرّك والجزيئيات الضارة والغبار المتطاير كلها عوامل تعرّض صحة الموجودين فيها لأضرار كبيرة ومنها الحساسية والأمراض الصدرية. بينما هذه المواد الملوّثة ذاتها حين تختلط بالهواء الطلق في مواقف السيارات المكشوفة يخفّ ضررها.
ولا يتوقف خطر مواقف السيارات عند الانبعاثات الغازية والجزيئيات الملوّثة وفق ما يشرح المهندس أبي نادر، إذ إن كل التقنيات التي يقوم عليها المبنى تمرّ عبر الموقف من قساطل مياه وتمديدات كهرباء وأحياناً خزانات مازوت وحتى مولّدات كهربائية، وفي حال عدم وجود نظام ميكانيكي لإطفاء الحرائق أو عدم وجود مطافئ حريق تقليدية فإن أي احتكاك كهربائي يمكن أن يؤدي الى كارثة ويتسبّب في إحراق السيارات المركونة في الموقف ويهدّد سلامة المبنى ككل. من جهة أخرى، يشكّل وجود نش في سطح الموقف أو جدرانه بيئة صالحة لتكوّن العفونة ورائحة «العطنة» كما يقال وهي تؤثر في صحّة الإنسان كما في صحّة أساسات البناء وتضعف الحديد المتواجد فيها وتهدّد سلامة المبنى.
ويكمل المهندس شرح الملوّثات قائلاً إن طبقة الباطون التي تغطّي أرض مواقف السيارات تتآكل مع الوقت وتتفتّت فينتج عنها المزيد من الغبار الملوّث، من هنا صارت كل مواقف السيارات الحديثة تعتمد الأرضية المطلية بمادة الإيبوكسي التي تحمي الباطون وتمنع تراكم الغبار. في لبنان، ثمة مؤسسات كبرى تعتمد هذه المادة في أرضية المواقف للمساعدة في حماية البيئة لكنها تقنية مكلفة لذا يعمد البعض الى اختيار نوعيات رخيصة سرعان ما تقشر وقد تتسبّب أحياناً في انزلاق السيارات. وينهي المهندس كلامه قائلاً إن أفضل المواقف هي تلك التي تتضمّن فتحات ونوافذ تتيح دخول الهواء النقي بشكل طبيعي. أما في حال تعذّر ذلك، فإن مراقبة المواقف بشكل دوري دقيق وصارم وصيانة مختلف أجهزتها، أمر حيوي لمنع الضرر.
طالبوا بالصيانة وإلّا…
«حبّذا لو يقتصر الأمر على بعض العفونة» يقول هاشم، «فالباركينغ في المبنى الذي أسكنه يعوم بالمياه مع كل شتوة تتسرّب إليه بسبب وجود خطأ هندسي وعدم وجود مصافٍ كافية للمياه عند نزلة الباركينغ تمنع وصول المياه إليه. طالبنا مالك المبنى بشراء «طربمة» لشفط المياه لنرفع الضرر عن أساسات المبنى لكنه رفض ذلك وتحجّج بالكلفة. لكنّ المحامي نصحنا بألا نتهاون في شؤون السلامة والصحة وهي نصيحة أوجّهها بدوري الى الجميع. وعلى المتضرّرين ألّا يسكتوا عن أي مخالفة يرونها في موقف السيارات وأن يضغطوا من أجل تصليحها وإلّا تحولت مع الوقت الى مصدر خطر مباشر عليهم وعلى المبنى».
قد لا يعي الكثيرون مصادر المخاطر في مواقف السيارات المقفلة ويعتبرونها نوعاً من المبالغة لكن ما يشير إليه خبراء البيئة كما الأطباء أن المفعول التراكمي لهذه الملوّثات المختلفة على مدى أشهر وسنوات لا شكّ له تأثير ضارّ على الصحة وخاصة على الجهاز التنفّسي. ويقول د. رولان واكيم الاختصاصي في الصحة الداخلية إن أبرز المشاكل التي يمكن أن تتأتّى عن استخدام هذا النوع من الباركينغ بشكل دائم هي الحساسية الصدرية وحساسية الأنف والعينين والقصبة الهوائية والحكّة الجلدية وكذلك ضيق النفس وازدياد حدّة نوبات الربو. وتزداد هذه المشاكل حدّة عند من يعانون في الأصل من مشاكل حساسية وقد يصل الأمر الى حدّ الإصابة بسرطان الرئة عند من يتعرّضون بشكل دائم وطويل لهذه الملوّثات مثل العاملين في مواقف السيارات تحت الأرض وذلك بحسب ما أوردته منظمة الصحة العالمية. ويتأثر الصغار كما الكبار بالملوّثات لكن تزداد حدّتها عند الأطفال وكبار السن أو حين تترافق مع مشاكل صحية أخرى. ويؤكد د.واكيم أن دراسات عدّة بيّنت أن تنشّق نسب مرتفعة من انبعاثات عوادم السيارات يمكن أن يسبّب حالة تسمّم بأول أوكسيد الكربون، كما يمكن لتنشّق ثاني أوكسيد الكربون أن يسبّب صداعاً قوياً وقد يؤدي الى الموت في حال تنشّق كميات كبيرة أو إذا كان المكان محكم الإقفال ولا يصله الأوكسجين مطلقاً.
وينصح كل من د. واكيم وخبير البيئة سمير سكاف مستخدمي الباركينغ بألا يفتحوا نوافذ السيارات عند تحمية محرّكات سياراتهم وألا يشغّلوا المكيّف فيها قبل التواجد في الهواء الطلق حتى لا يتنشّقوا الملوّثات. وفي حال كان استخدامهم الباركينغ متواصلاً ويعانون من الحساسية في الأصل فلا بأس أيضاً من وضع القناع الطبي الذي اعتدنا عليه أثناء جائحة كورونا. وتبقى الوقاية ضرورية رغم كون أخطار الباركينغ غير مرئية.