كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
يتندّر أحد أبرز الديبلوماسيين الذي يتعاطى بأدق تفاصيل الاستحقاق الرئاسي بالقول انّ من حق اللبنانيين التباهي بما تسببوا به من انقسام على مستوى اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان. ولمّا فوجئ بالسؤال ان كان هذا الامر قد حصل ترجمة لمواقف اللبنانيين ام بالعكس، أعادَ حساباته قبل ان يرفض الدخول في مقولة «إن كانت الدجاجة قبل البيضة ام أنها قبلها؟». وعليه، كانت هذه المعادلة التي تعكس صورة الوضع وما آلت إليه جهود الداخل والخارج؟
لم يكن من الصعب التثبّت من المعلومات التي تحدثت عن التباين الاميركي – الفرنسي الذي شهده اجتماع الخماسية الدولية من أجل لبنان في اجتماعها الذي عقد أمس الأول الثلاثاء على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقر البعثة الفرنسية التي تخوض غمار البحث عن آلية انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية اللبنانية عبر موفدها الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، ليكون الخطوة الاولى على الطريق المؤدية الى ما تعتقده الخماسية مُمكناً للتوافق المطلوب لاطلاق عملية التعافي، وإنقاذ ما تبقى من المؤسسات ومنع انهيار الباقي منها، والذي يقف على قاب قوسين او ادنى من الانهيار المدوّي في الكثير من القطاعات الحيوية والمعيشية على خلفية تنامي الازمة المالية والنقدية وانعكاسات ازمة النازحين السوريين الخطيرة على مختلف المستويات.
ولم يكن ينقص المراقبين ما يثبت دقة هذه المعلومات المتداولة في الكواليس الديبلوماسية العربية والدولية ومدى صحتها، ما كشفه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. بقوله انّ «هناك تباينا بين الولايات المتحدة وفرنسا في اللجنة الخماسية حول لبنان». وهو ما دفع الى قراءة جديدة للمعادلة التي تحكمت بأعمال هذه اللجنة بعد لقائها الثاني في الدوحة في 17 تموز الماضي وما سبقه ورافَقه وتلاه من روايات وسيناريوهات كانت قد وضعت الولايات المتحدة الاميركية خلف الموقف القطري وليس في المقدمة ومعها موقف المملكة العربية السعودية في مواجهة الطرح السابق للموفد الفرنسي.
فقد سبق للجانب الفرنسي أن تبنّى وجهة نظر «الثنائي الشيعي» وخلفياته الممتدة من بيروت الى طهران، لكنّ عجزه عن الحصول على اي ضمانة لتسييل موقفه لدى «الخماسية الدولية» من جهة وفي الداخل اللبناني من جهة أخرى، زادَ من هشاشة المبادرة الفرنسية وتصدعها، وهو ما ترجم بعدم قدرته على إحداث اي خرق يذكر. ذلك انّ معادلته السابقة التي قالت ان انتخاب الوزير السابق سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية يواكبه اتفاق مسبق على تكليف السفير والقاضي نواف سلام برئاسة اولى حكومات العهد الجديد قد اصطدمت بمجموعة من الحواجز الداخلية والخارجية، وهو وإن تراجعَ عنها فلم يعلن بعد عن طيّها تماماً، بدليل ان هذا الطرح ما زال قائما في بعض الدوائر اللبنانية وكذلك في عمق الادارة الفرنسية العميقة وخصوصا على مستوى بعض اعضاء خلية الازمة التي تجاوزها تكليف لودريان بالمهمة الجديدة من قبل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون شخصيا في 8 حزيران الماضي.
والى هذه المعطيات اعترف الديبلوماسي انه فوجىء بالصدام الاميركي – الفرنسي، فهو الصدام الذي كان منتظراً بين القطريين والفرنسيين. فكل المعلومات كانت تشير الى انّ «الطحشة القطرية» كانت تنتظر اي محطة تفشل فيها فرنسا وتؤكد عجزها عن اتمام المهمة، او اي دعسة ناقصة تودي بها للانطلاق الى واجهة الاحداث. وما زاد من المفاجأة، التي احدثها الموقف الاميركي المتشدد الذي قادته مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى باربارا ليف في مواجهة مديرة مكتب الشرق الاوسط في الخارجية الفرنسية السفيرة الفرنسية السابقة في لبنان آن غريو، أن سبقَ لنائب رئيس البعثة السعودية في الامم المتحدة ان طلب من غريو تقدير المهلة الإضافية المطلوبة لانجاز المهمة التي يقوم بها لودريان قبل ان يغادر الاجتماع بعد مشاركة لم تزِد على الدقائق العشر التي تلت مداخلته والاستماع الى العرض الفرنسي الذي قدّمته احدى اكثر الخبيرات في الشأن اللبناني السفيرة الفرنسية السابقة في بيروت آن غريو، والتي شاركت في «الطبخة الرئاسية» لفترة طويلة قبل انتقالها الى موقعها الجديد في خارجية بلادها.
وعليه، بقي ممثل قطر في الاجتماع وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد عبد العزيز الخليفي وهو الأرفع تمثيلا لبلاده من بين المشاركين فيه متفرجا متحفزا ليعلن استعداد بلاده للتحرك بما يمكن أن يطلقه من مبادرات لعله يتمكن من سد المنافذ الايرانية التي تسللت الى المبادرة الفرنسية وعطّلتها، اذا صحت الاتهامات التي وجهها الرئيس ماكرون الى طهران في خطابه الشهير في 29 آب الماضي أمام منتدى سفراء فرنسا في العالم الذي عُقد في قصر الاليزيه، والذي قطع آخر خطوط التواصل بين باريس والقيادة الايرانية عدا عن تأثر العلاقات بينه و«الثنائي الشيعي» بانحرافه عن الطروحات السابقة، ولم يعد هناك من مجال لينال اي فرصة اضافية ما لم يقدم لودريان صيغة قابلة للحل في اسرع وقت تمنّاه نائب رئيس البعثة السعودية في الأمم المتحدة، ليؤكد انه يقف الى جانب الاميركيين في موقفه متسلحاً بالصمت المصري المدوّي دلالة على دعمه للأطراف الثلاثة الذين خرجوا من موقع القيادة الخلفية في اليومين الماضيين.
عند هذه المؤشرات الدالة الى حجم الخلافات التي عصفت بالخماسية والتي بقيت ضمن الغرف المغلقة، ثبتَ انّ كل ما قيل عن وجود قلب واحد وقرار واحد خلف الحراك الفرنسي ليس دقيقا. وإنّ على من يرغب بالمزيد ان يبدأ بقراءة جديدة لموازين القوى المتحكمة بعمل اطرافها، ومعها القوى الأخرى الاقليمية والدولية المستعان بها من خارج تركيبتها. وإن أدرجت طهران من بينها فمن الضروري ضم الديبلوماسية الفاتيكانية اليها ايضا. وهو ما يحاكي بشكل من الأشكال مصير الزيارة الرابعة للموفد الفرنسي التي وضعت على بساط البحث بشكل جدي لإفساح المجال امام الحراك القطري ان كانت لديه اوراق ايرانية «مخفية» وما زال يحتفظ بها منذ فترة رافقت حراكه ما بين الرياض والدوحة وطهران، منذ الاجتماع الثاني للخماسية في تموز الماضي. وإن بقيت زيارة لودريان الرابعة واردة، فقد تكون من أجل إبراء ذمته تجاه من قدّروا له خطوته بتوجيه رسائله الـ 38 الى النواب ولا بد من لقاء معهم يشهد على المنحى الجديد للتطورات وهو أمر لن يطول انتظاره.
ختاماً، وإن سقطت مختلف التوقعات المحيطة بالمبادرة الفرنسية، ومنها إمكان اصدار بيان ختامي ولو كان متأخراً عن «لقاء نيويورك الثالث» بمعزل عن مستوى التمثيل فيه، فإنّ هناك موقفا فرنسيا مُرتقبا في الساعات المقبلة ان تحقق اللقاء بين الرئيس ماكرون والبابا فرنسيس على هامش المؤتمر المقرر عقده في مارسيليا جنوب فرنسا المخصّص للبحث حول «الهجرة واللجوء على ضفتيّ البحر الأبيض المتوسّط»، لأنه وفي حال حصوله يقدم مؤشرا إضافيا لما يمكن ترقّبه من احداث في الفترة المقبلة. عندها، قد ينال المراقبون جواباً يُنهي الجدل «ان سقطت الخماسية في فخ «اللبننة» أم أنها هي التي عزّزت الفرز بين اللبنانيين.