أشار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى انه “تُصادف هذا العام الذكرى الثمانون لاستقلال لبنان.ثمانية عقود، دأب لبنان خلالها على السعي إلى استحقاق موقعه بين الأمم المُحبّة للسلام والرفاه، وكان من المؤسسين الأوائل لهذه المنظمة الدولية التي نلتقي في كنفها اليوم، تاركاً بصماتٍ مشهودة في صوغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، لافتًا إلى أنها لم تكن رحلةً سهلة.
وقال في كلمته خلال الدورة الثامنة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة: “فإلى جانب محطّات مشرقة من تاريخه وموصوفة من الاستقرار والنمو والازدهار وبناء السلام، عاش لبنان أيضاً مراحل مديدة بالغة الصعوبة، تواتَرَت خلالها صراعات على أرضه، وفي محيطه،وحروب عدوانية عليه، أنتجت احتلالاً طويلاً لأجزاء عزيزة من أرضه، وأزمتيْ لجوءٍ ونزوحٍ مديدتيْن، وصولاً إلى أزمة اقتصادية ومالية وإنسانية غير مسبوقة”.
وأكّد رئيس الحكومة أن لبنان يُكابِد اليوم في مواجهة أزمات عديدة ومتداخلة، في ظل نظام دولي أصابه الوهن، ومناخ إقليمي حافل بالتوترات والتحدّيات، تُرخي بثقلها على الشعب اللبناني الذي يُعاني يومياً من فقدان المقوّمات الاساسية المعنوية والمادية التي تُمكّنه من الصمود، والتي تُضاف إليها هجرة الأدمغة والشباب، وانحسار شُعلة الأمل في عيون الكثير من اللبنانيين واللبنانيات.
وشدد على أن أُولى التحدّيات تكمُن في شغور رئاسة الجمهورية وتَعَذُّر انتخاب رئيسٍ جديدٍ للبلاد، وما يستتبع ذلك من عدم استقرار مؤسساتي وسياسي، ومِن تفاقُمٍ للأزمة الاقتصادية والمالية، وتَعَثُّر في انطلاق خِطط الإصلاح والتعافي الاقتصادي والمالي الذي يُعوِّل عليه اللبنانيون لإنقاذ البلد من الأوضاع الصعبة.
وأضاف ميقاتي: “أتطلّعُ صادقاً لأن يُمارس البرلمان اللبناني دورَهُ السيادي بانتخاب رئيس للجمهورية في الفترة المُقبلة ،رئيس يتوحّد حوله اللبنانيون، ويُكرّس عودة الجمهورية عبر رئاسة الجمهورية والمؤسسات الدستورية،عودة لبنان إلى تأدية رسالتِهِ ولعب دورِهِ الطليعي، بالتعاون الوثيق مع الأشقّاء العرب والأصدقاء في المجتمع الدولي”.
وتابع: “لا يسعُني في هذا الصدّد إلا أن أحيّي الدور الذي تؤدّيه اللجنة الخماسية، كما والمبادرة الفرنسية الهادفة الى المساعدة في انجاز هذا الاستحقاق الدستوري”.
ومن جهة أخرى، أشار ميقاتي إلى أن “اثني عشر عاماً مرّت على بدء الأزمة السورية، وما زال لبنان يرزح تحت عبء موجات متتالية من النزوح طالت تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية كافة مظاهر الحياة فيه، وباتت تُهدِّد وجوده في الصميم، ورغم إعلائنا الصوت في كافة المنتديات الدولية، وفي هذا المحفل بالذات، ما زال تَجاوب المجتمع الدولي مع نتائج هذه المأساة الإنسانية، وتداعياتها علينا، بالغ الخجل وقاصراً عن معالجتها بشكلٍ فعّال ومستدام”.
وحذّر مُجدداً من انعكاسات النزوح السلبية التي تُعمّق أزمات لبنان، الذي لن يبقَى في عين العاصفة وحده. كما أُكرّر الدعوة لوضع خارطة طريق بالتعاون مع كافة المعنيين من المجتمع الدولي، لإيجاد الحلول المستدامة لأزمة النزوح السوري، قبل أن تتفاقم تداعياتها بشكلٍ يخرج عن السيطرة.
كما سجّل رئيس الحكومة تطوّراً إيجابياً في هذا المجال يتمثّل في الاتفاق الذي توصّل إليه لبنان مع المفوّضية العُليا لشؤون اللاجئين حول تَبادُل المعلومات عن الوجود السوري في لبنان ، مؤكّداً بالتالي حرص لبنان على تعميق التعاون مع المنظمات الدولية والأممية، باعتبار ذلك ركناً أساسياً من أركان الحل المُستدام المنشود.
أما عن التحدّي الثالث، فأكّد ميقاتي أنه يتمثّلُ باستمرار احتلال إسرائيل لمساحاتٍ من ارضنا في الجنوب ، ومواصلة اعتداءاتها وانتهاكاتها اليومية للسيادة اللبنانية، وخرقها لموجبات قرار مجلس الأمن 1701 الذي يؤكّد لبنان التزامه بكامل مدرجاته واحترامه كافة قرارات مجلس الامن ذات الصلة.
وقدّم ميقاتي الشكر لكافة الدول المشاركة ضمن قوات اليونيفيل التي جدّد مجلس الامن ولايتها في نهاية آب الفائت.ولا تكتمل المهمة التي أُنيطت بهذه القوات الأممية من دون التعاون الوثيق والتنسيق الدائم مع الجيش، ما من شانه أن يُسهِم في ترسيخ السلم والسلام والأمن في المنطقة، وبسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل التراب، حتى الحدود المعترَف بها دولياً.
وقال ميقاتي: “اسمحوا لي أن أُسجّل ارتياح لبنان لبدء عملية التنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية، ورغبته في لعب دور بنّاء مستقبلاً في مجالات الطاقة في حَوض المتوسط”.
أشار ميقاتي إلى أنّ أجزاء عزيزة من منطقة الشرق الأوسط تَشهد حالاتٍ مُقلقةٍ من عدم الاستقرار السياسي والأمني، تُرخي بظلالها على دول المنطقة وشعوبها،مع الحرص على تسجيل استثناءات مُلفتة من الاستقرار والتطوّر والنمو وبناء المستقبل في دول الخليج العربي الغالية ،هي وشعوبها الشقيقة علينا، وعلى قلوبنا، والتي يدينُ لها لبنان وشعبه بالكثير من الامتنان والتقدير.ومن هذه الاستثناءات عودة الجمهورية العربية السورية إلى ممارسة مهام عضويتها في جامعة الدول العربية، والاتفاق السعودي-الإيراني.
ولفت إلى انه في المقابل، ما زال الشعب الفلسطيني الشقيق يرزح تحت الاحتلال، ويُصارع لنيل حقوقه الإنسانية غير القابلة للتصرُّف. وفيما تزداد الحاجة للتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، نُعيد مجدّداً تأكيد تمسّكنا بالسلام العادل والشامل المستنِد إلى حلّ الدولتيْن والمرجعيات الدولية، وفي طليعتها قرارات مجلس الأمن 242 و338. وأُكرّر اليوم التذكير بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت في العام 2002، والتي طُرحت فيها أُسس السلام المنشود.
وفي هذا السياق، وكبلد مُستضيف لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948، كرّر ميقاتي باسم لبنان تذكير المجتمع الدولي بمسؤوليته الإنسانية والأخلاقية تجاه لاجئي فلسطين، ويطالب بتوفير الدعم الكامل لوكالة الأونروا لتمكينها من الاستمرار، ومواصلة القيام بمهامها، بانتظار الحل النهائي.
وقال: “لطالما قلنا إن العالم يشهد تحدّيات عابرة للحدود، تتطلّب المزيد من التنسيق والتعاون بين الدول. فمن تَغيُّر المناخ، إلى الجوائح الفيروسية، مروراً بمسائل الأمن، والأمن الغذائي، والأمن السيبراني، والهجرة غير الشرعية، والتطرُّف والإرهاب، وغيرها.تتعدَّدُ التحدّيات ذات الطابع الكوني التي لا يُمكن مواجهتها إلا بتضافر الجهود بين الحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني. وهنا لا بد من التعبير عن تضامننا مع الشعبين الليبي والمغربي في مواجهة الكوارث الطبيعية التي عصفت بالبلدين الشقيقين”.
واعتبر رئيس الحكومة أن التعاون الدولي القائم على مبدأ الشراكة والشمولية بات حاجة حيوية لأمن وأمان الشعوب ورفاهها. وتقع منظمة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة الواقعة تحت مظلتها في قلب هذا الجهد الدولي، لتُسهِم في إرشاده وإسناده بالمعايير والأدوات.
وفي ضوء التحديات التي يعيشها لبنان على المستوى الوطني، ورغم التوترات الإقليمية التي تنعكس عليه سلباً على مختلف المستويات، فأكّد ميقاتي أن البلد يحرص على مواصلة لعب الدور المنتظر منه على المستوييْن الإقليمي والدولي. فقد سعى لبنان، وعلى الرغم من الوضع الذي يمرّ به، إلى مواصلة تطبيق أهداف التنمية المستدامة 2030، واتفاق باريس للمناخ، كما شارك بفاعلية في مؤتمر المناخ COP27 في شرم الشيخ، في جمهورية مصر العربية الشقيقة، ويتطلّع لنفس القدر من المشاركة الفاعلة في مؤتمر المناخ COP28 الذي يُعقد في مدينة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، متمنِّين للبلد الشقيق المُضيف وللمؤتمر النجاح والسداد.
هذا وشدّد ميقاتي على “أهمية وجود دولة لبنانية سيّدة ومستقلّة، قوية وقادرة وحاضِنة، متعاونة مع المجتمع الدولي والدول الصديقة والشقيقة، دولة لبنانية تحمي النظام الديمقراطي البرلماني والحريات العامة والخاصة، وتنخرِط في مسار الإصلاح البُنيوي وعملية تعزيز أُطر دولة الحق والمواطَنة والمساءلة والعدالة، دولة لبنانية تؤمن بالتسامُح والتآخي والتلاقي، وتعتمد سياسة “النأي بالنفس” والابتعاد عن “سياسة المحاور”،دولة لبنانية هي بمثابة حاجة ماسة للأمن والسلم والسلام والاستقرار والازدهار في المنطقة، وأفضل السُبُل لنا جميعاً لمواكبة المتغيّرات والتخفيف من الانعكاسات والتداعيات، وبناء المستقبل، ومواجهة التحدّيات المتمثّلة بالفقر والبطالة وهجرة الأدمغة والتطرّف والإرهاب، وبالتالي تجنُّب الوقوع في المجهول”.
وختم ميقاتي كلمته قائلًا: “اسمح لي، السيّد الرئيس، أن أختم كلمتي باستعادة المرتكزات التي وضعتَها سعادتُك أُسساً لرؤيتك الآيلة إلى قيادة الجمعية العامة في دورتها الحالية.إنّ”السلام” و”الازدهار” و”التقدم” و”الاستدامة” هي بالفعل عناوين عريضة جامعة لتطلّعات دولنا وشعوبنا جميعاً. إذ، لا مستقبل آمن ومزدهِر لنا جميعاً من دون تحقيق تلك الأُسس والمرتكزات، ولا يُمكن تحقيقها إلا بالتكاتُف والتعاضُد والعمل المشترك تفادياً للمزيد من الحروب والنزاعات والتحدّيات والمآسي الإنسانية والخسائر المادية والبيئية”.
وتوجّه ميقاتي في مستهلّ كلمته إلى سعادة السفير دينيس فرانسيس، رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة، بالتهنئة على انتخابه رئيساً للدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، متمنياً له التوفيق في تولّي هذه المهمة، ومُعرباً له عن دعم وفد لبنان لبرنامج العمل الرؤيويّ الذي وضعتموه للعام المقبل، كما توجه إلى سعادة السيّد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة.