كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يُفترض أن يعترف اللبنانيون بعجزهم أمام مأزق النازحين السوريين. فكل الصراخ الصادر عن المسؤولين، من رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى وزيري الخارجية والشؤون الاجتماعية، لا يقدّم ولا يؤخر. ففي هذا الملف أيضاً، البلد يتقدم سريعاً نحو الارتطام الكبير.
جاء التحذير القبرصي، قبل أيام، من مغبّة انهيار لبنان تحت ضغط النزوح السوري ليسلط الضوء بقوة على واحد من أكبر الأخطار التي يواجهها البلد، كدولة وكيان، والتي تتعاظم بصمت وسرعة.
قبرص تتوجّس من انعكاس هذا الانهيار على مستقبل الجزيرة الصغيرة التي قد تغرق بالنازحين في هذه الحال. ولذلك، هي اليوم تستجير بالقارة الأم، أوروبا، التي تشكل قبرص إحدى بواباتها الأقرب إلى سوريا، وتطالبها باعتماد الحزم قبل فوات الأوان. وما يجري اليوم على شواطئ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية هو نموذج مصغر للسيناريوهات المقبلة على أبواب القارة العجوز.
في نظر الأوروبيين، لبنان يمكن أن يؤدي وظيفة أساسية في حمايتهم، بأن يشكل سداً منيعاً أمام النازحين، بل سجن كبير يستوعبهم ويقفل أبوابه عليهم. وأما الانعكاسات الأخرى لأزمة النزوح، أي أثره الكارثي على لبنان ذاته، فهذا أمر متروك للبنانيين أن يتدبّروه على طريقتهم.
طبعاً، لا مشكلة لدى الأوروبيين أو العرب أو سواهم في وجود مليونين ونصف المليون نازح سوري (ونصف مليون فلسطيني) في بلدٍ مُنهار، ضيّق المساحة، ولا يتجاوز سكانه الخمسة ملايين يتخبّطون منذ نصف قرن في صراعات طائفية ومذهبية وسياسية لا تنتهي.
بروحية أنانية، القاعدة التي يعتمدها الأوروبيون في هذا الملف هي: فلنطعم النازحين خبزاً في لبنان، ونغريهم بالاستفادة في أبواب الرزق فيه، فتطيب لهم الإقامة في ربوعه ويقلعون عن التفكير في الهجرة إلى أوروبا. وأحدثَ الفصول في هذا الملف هو أن مفوضية اللاجئين بدأت تأخذ على عاتقها التبرّع بإفادات سكن للنازحين في لبنان، رغماً عن أنف الجانب اللبناني الرسمي.
من زاوية أخرى، يبدو الأوروبيون أنفسهم عاجزين أيضاً عن مواجهة الملف. فلا هم قادرون على فرض حل سياسي في سوريا يتكفّل بوقف النزوح، ولا هم قادرون على إقفال البحر في وجه قوارب الموت. لذلك، هم يمارسون ما أمكن من ضغوط لإبقاء قنبلة النزوح محصورة داخل الحدود في دول الجوار السوري.
وفي هذه اللحظة، بدأ المارد يتحرك من جديد. وعاد الحديث عن موجة نزوح كثيفة صوب لبنان، من خلال المعابر غير الشرعية خصوصاً. ويبدو لكثير من المراقبين أن عودة هذا الملف إلى الضوء بقوة، جاءت مفاجئة، وغير مبرَّرة أو مفهومة. وهو ما يدفع إلى طرح العديد من الأسئلة:
-1 في غياب الإحصاءات الدقيقة، هل إن الكلام المتداول أو المسرّب على حجم التدفقات الجديدة صحيح أم مبالغ فيه؟
-2 إذا كانت الأرقام المتداولة دقيقة، فما هي الخلفيات السياسية لهذا التدفق الجديد، فيما لم تشهد سوريا تطورات عسكرية حقيقية أو مخاوف من تطورات كهذه تستدعي حصوله؟ وفي المقابل، ما الخلفيات السياسية المحتملة لتضخيم الأرقام، إذا وجد؟
-3 مَن سيقطف ثمرة انفجار ملف النازحين في أيدي اللبنانيين وسلطتهم السياسية وزعمائهم، في داخل لبنان وسوريا وخارجهما؟
ذات يوم، سيكتشف اللبنانيون أنهم فيما كانوا منشغلين بصراعات الزعماء والطوائف، على الحصص الفئوية والشخصية، لإدارة المرحلة اللاحقة لخروج سوريا العسكري من لبنان، في العام 2005، كانت سوريا نفسها تعود إلى لبنان تسللاً من معابر شرعية وغير شرعية، من خلال النازحين.
لا يعني ذلك أنّ هؤلاء النازحين هم أدوات في أيدي النظام. وعلى العكس، غالبية هؤلاء ينتمون إلى بيئة سياسية وطائفية مناهضة له. لكن وجودهم هو أفضل ورقة، تستخدمها دمشق للضغط مجدداً على لبنان، ونتائجها مضمونة.
ومن سخريات الأقدار أن النازحين يصبحون دائماً أضعف الحلقات في الصراعات بين الحكومات والأنظمة والدول. ولذلك، هم يُستخدمون أوراقاً للمساومات. ولبنان المنقسم على نفسه لم ينجح في لعب هذه الورقة كما فعلَ مثلاً رجب طيب إردوغان في تركيا عندما جعل الملف وسيلة لسحب الأموال من الأوروبيين. وعندما انتهى موسم الاستثمار، رفع الصوت معترضاً ومهدداً. ولكن، في لبنان، استفاد البعض من أموال المساعدات لـ»يعيش» في زمن نضوب الدولة من الأموال.
اليوم، يبدو سهلاً جداً حل أزمة النازحين السوريين، في كل دول الجوار وأوروبا، بمجرد إقرار تسوية سياسية في سوريا. ولكن، ليس واضحاً تماماً من هي القوى التي تعرقل هذه التسوية: النظام وحلفاؤه أم الخصوم؟ وما هي أهداف المعرقلين؟
في لبنان، يقال دائماً إن ملف النازحين السوريين هو قنبلة موقوتة ستنفجر ذات يوم. ولكن، مَن سيقوم بعملية التفجير هذه، في اللحظة التي تناسبه، وما هي الأهداف التي سيحققها؟
للتذكير، خطورة اللعب بملف النازحين تكمن في أنه قادر على تفجير الكيان اللبناني من أساسه.