كتبت جنى الدهيبي في “المدن”:
يقف الجيش اللبناني، ميدانيًا وأمنيًا، في اختبار التصدي لموجات دخول آلاف اللاجئين السوريين عبر المعابر البرية غير الشرعية. وإذا كان الجيش هو الموكل من الحكومة بمهمة ضبط الحدود بوجه الهاربين من سوريا إلى لبنان، عبر شبكات من المهربين والسماسرة بين البلدين، فإن مهمته تبدو حرجة للغاية، بعدما كشفت عن ضعف كبير في قدراته اللوجستية والعسكرية.
في الأشهر الأخيرة من ولايته، وبينما يتصدر اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون قائمة المرشحين الجديين لرئاسة الجمهورية، يبدو أن تعامله مع موجة النزوح السوري المتصاعدة، انتقل إلى مرحلة مختلفة، تعكس تصعيدًا وعجزًا في آن، بعدما وضعها بمنزلة “الخطر الوجودي” على لبنان.
وبمعزل عن تحول ملف اللجوء إلى أكثر الأوراق استهلاكًا، في السياسة والأمن والرئاسة والخطابات الطائفية، وبعلاقات لبنان الإقليمية والدولية، فإن الوقائع الميدانية والأمنية، تطرح تساؤلات جدية عن واقع الجيش وقدراته.
المعبر الواحد؟
في السنوات الأخيرة، جرى الحديث عن وجود أكثر من 130 معبرًا بريًا غير شرعي بين لبنان وسوريا، اللذين لم يتفقا تاريخيًا على ترسيم حدودهما. معظم هذه المعابر تتركز بين البقاع والشمال، لا سيما في وادي خالد. لكن مصدرًا أمنيًا مسؤولًا، يقول لـ”المدن” بأن الحدود البرية التي يتجاوز طولها بين لبنان وسوريا 340 كيلومترًا، هي عبارة كلها عن معبر واحد بمئات النقاط المتحركة!
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن ثمة مئات النقاط للعبور غير الشرعي، تتوزع على كل شبر من الحدود، وتختلف وفق جغرافيتها فحسب، بالسهول والجرود والجبال.
يكشف المصدر الأمني أن ثمة 53 معبرًا في البقاع، وأكثر منها في الشمال، رصدها الجيش بواسطة الأبراج ونقاط المراقبة والكمائن، والبعض منها تم إقفاله بسواتر ترابية. وأبرز هذه المعابر التي تم ضبطها بين الشمال والبقاع، هي 13 معبرًا: معبر الكنيسة – عكار، معبر قرحة – عكار، معبر العبيدان – عكار، معبر الواويات – عكار، معبر العميري – عكار، معبر الحج عيسى في البقعية – عكار، إضافة إلى معابر قاصف أبو بكر، حسن نمر نصار الدين، منجد الهق، حيدر مخيبر ناصر الدين، جسر ركان الحج حسن، ومعبر محمد شفيق الحاج حسن.
وعلى طول هذه المساحة الجغرافية، يوجد لدى الجيش أربعة أفواج حدود برية فقط، مع لوائين في البقاع ولواء في الشمال، ولا يتجاوز إجمالي عناصرها 7 آلاف عنصر. أما ميدانيًا، فيعمل على الأرض نحو نصف هذا العدد فقط، لأن النصف الآخر يكون إما مأذونًا أو بمهمات أخرى. وعليه، يعتبر المصدر الأمني بأنه من المستحيل توزيع هذه العناصر على مئات المعابر والنقاط المخفية.
في حين، وعلى طول الحدود، يوجد لدى الجيش نحو 32 برج مراقبة فقط، بينما يعتمد في المناطق المأهولة سكنيًا على السواتر والكمائن لتتبع حركة المهربين والنازحين.
أموال طائلة
يصف المصدر الأمني المتابع، دينامية العلاقة بين الجيش وشبكات التهريب، بعملية الكر والفر الدائمة. لكنه يقر بذكاء ودهاء المهربين، الذين احترفوا التعامل مع الجيش، وأصبحوا يتتبعون حركته، وأحيانًا ينصبون له الكمائن، عبر الإشاعة أنهم سيعبرون من نقطة فيعبرون من أخرى!
يقول المصدر: “يتعامل عناصر الجيش مع شبكة مهربين محترفة، تعتمد مختلف الأساليب للحفاظ على مكاسبها المالية التي تجنيها من النزوح السوري. ومهما كلف الثمن، سيُدخِلون النازحين إلى لبنان مقابل الأموال الطائلة التي يتقاضوها. لذا فإن من يقبض عليهم الجيش، هم عينة صغيرة من آلاف السوريين الذين يدخلون عبر المعابر البرية غير الشرعية”.
وحول مطالبة الجيش بوضع حواجز أمنية ثابتة عند المعابر البرية غير الشرعية، وتحديدًا تلك التي يرصد نشاطها، يوضح المصدر بأن العمل على ذلك مستحيل ولن يأتي بنتيجة. أولًا، نظرًا للطبيعة الجغرافية المتداخلة التي تتيح للمهربين التحايل على الحواجز. وثانيًا، نظرًا لضعف الإمكانات اللوجستية والتقنية، ما يجعل من الارتكاز على أسلوب “الكمائن” للمهربين أكثر جدوى. ويضيف: “يحتاج الجيش إلى قدرات بشرية ولوجستية هائلة وآليات خاصة للإمساك بالحدود”.
ويُعَدّ توفير المازوت هو التحدي الأبرز الذي يواجه الجيش في حركته ومهماته عمومًا. وهو ما دفع صندوق قطر للتنمية، نهاية الشهر الفائت إلى تزويد الجيش بالوقود لمدة ستة أشهر وبقيمة ثلاثين مليون دولار.
ويقول المصدر بأن حاجة الجيش قياسًا لموارده كبيرة جدًا، وأحيانًا يُقصّر ببعض مهماته لنقص بالمحروقات ونتيجة تعطل آليات تحتاج إلى صيانة. ناهيك عن الوضع النفسي الصعب للعساكر عند وجودهم في الميدان، بسبب تردي أوضاعهم الاقتصادية وتآكل قيمة رواتبهم، واضطرار كثيرين منهم للانخراط بأعمال أخرى لتوفير دخل كاف لأسرهم.
القضاء والترحيل
في تقريرها السابق عن ترحيل السوريين قسرًا، أشارت “المدن”، إلى ارتفاع عمليات التصدي والترحيل التي ينفذها الجيش بنسبة عالية بحق من يدخلون خلسة، ما يرفع مجموع الأشخاص السوريين الذي أعادهم أو رحلهم في العام 2023 حتى تاريخه، إلى نحو 11 ألف سوري.
لكن المصدر الأمني يشير إلى أن الجيش حين يلقي القبض على سوريين يدخلون خلسة بواسطة مهربين، ليس أمامه سوى ترحيلهم إلى النقطة التي دخلوا منها، وبأنه يملك إشارة قضائية دائمة بهذا الإطار. ويقول: “السجون ومراكز التوقيف في لبنان مكتظة للغاية، ولا مجال حتى لتوقيفهم في ظل التركيز على تتبع المهربين وإلقاء القبض عليهم، لذا لا يملك الجيش سوى خيار ترحيل من يلقى القبض عليه أثناء دخوله لبنان خلسة عبر المعابر غير الشرعية”.
حتى الآن، وبحسب معلومات “المدن”، لا يوجد في قبضة الجيش أكثر من 15 مهربًا كانوا ينشطون على خط تهريب السوريين برًا بين لبنان وسوريا. مقابل نشاط كثيرين، من لبنانيين وسوريين، إما فرديًا أو ضمن شبكات منظمة. وحسب المصدر، فإن الجيش يواجه أزمة فعلية مع الأحكام القضائية المخففة بحق المهربين الذين يلقي القبض عليهم. ذلك أن الأحكام الصادرة بحقهم، لا تتجاوز مرتبة الجنحة أو المخالفة، وسرعان ما يطلق سراحهم في غضون أيام أو أسابيع في أفضل حال، ثم يستأنفون عملهم مجددًا!
يقول المصدر الأمني: “رغم أن القضاء مقيد بالنص القانوني، لكن في حالة هؤلاء المهربين، يحتاج الجيش لأحكام استثنائية، لأنه يستغرق أحيانًا أيامًا طويلة في تتبع أحد المهربين، ثم يطلق القضاء سراحه بعد محاكمته سريعًا”.
القرار السياسي
ورغم أن عددًا كبيرًا من السوريين يدخلون لبنان باعتباره أشبه بمحطة ترانزيت حتى ينطلقوا منه عبر البحر إلى أوروبا، يشير المصدر الأمني، إلى تراجع وتيرة الهجرة عبر البحر نسبيًا، قياسًا للوتيرة غير المسبوقة العام الفائت بلغت ذروتها. سبب ذلك أن الجيش، وبمساندة خفر السواحل، صب جهدًا كبيرًا في القبض على عدد كبير من الرؤوس الكبيرة للمهربين الذين ينظمون رحلات الهجرة إلى أوروبا.
ويتساءل كثيرون عن موقف الجيش من اتهامات حول تورط عناصر بالفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري بتسهيل عبور السوريين إلى لبنان، والانخراط بنشاط المهربين، وعن سبب عدم التوجه مباشرة إلى النظام والجيش السوري للمطالبة بضبط هذا الواقع. يقول المصدر: “المسألة معقدة للغاية ميدانيًا وأمنيًا، وهذه مسألة سياسية، وتحتاج لقرار سياسي من لبنان بالتوجه للنظام وللتحقق من تورط عناصر في جيشه بهذه العمليات الخطيرة”.