كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
“يا زمان الماضي عود ورجّعني ع مدرستي”. هل تُصبح أغنية الفنّان الراحل جوزيف ناصيف نشيداً مدرسيّاً يردّده طلاب الرسمية، شوقاً وحنيناً إلى مقاعدهم وحقائبهم ومعلّميهم؟ إلى لقاء الأصدقاء بعد غياب، إلى الكدّ واللعب، إلى رسم المستقبل بريشة الأحلام. إلى صعوبة الإستيقاظ الباكر ولهفة انتظار جرس الرحيل. إلى كلّ ما تحمله هذه الرحلة الممتدّة لـ15 عاماً من عناصر بناء الشخصيّة والتحصيل العلمي؟ إلى تخزين الذكريات المكتوبة في كلّ زاوية، ليتمّ التقاطها على دروب الأيام القادمة؟ إلى زمنٍ كان فيه التعليم هو الثابت الوحيد والمستقرّ في بلد التحوّلات والإضطرابات السياسية الدائمة؟ أم إلى حاضر أليم، تكتنفه حسرة الأهالي العاجزين عن إرسال أبنائهم إلى مدارس خاصّة، متمنّين لو أنّهم يتمتّعون بصفة «لجوء» في وطنهم، لعلّهم يحصلون على دعم أممي، وقلق الأساتذة المتأرجح بين همّي انتزاع الحقوق وتأدية الواجب؟
في الواقع، يبدو أنّ العام الدراسي الرسمي «مُعاقب» في غرف التسويات والمفاوضات بين الجهّات الرسمية المعنية من جهة، ووزارة التربية والروابط التعليمية من جهة أخرى. إذ ترفض الأخيرة الوقوع في أفخاخ المواسم الفائتة، معتبرة أنّ الوضوح هو مفتاح الأبواب، أيّ “تقريش” الموازنة التربوية (2023 – 2024) البالغة 150 مليون دولار إلى رواتب فعلية.
إذاً، لا تزال الحلول في صفحات الوعود رغم تأكيد وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال عبّاس الحلبي، أنّ العام الدراسي سيبدأ في 9 تشرين الأوّل المقبل. فأصبحت السنة التعليمية في لبنان تخضع لتقويمين: خصوصيّ ورسميّ. أضف إليهما التوقيت «الأممي» الخاصّ بالنازحين السوريين.
في السياق، يرى مصدر تربوي أنّ الروابط التعليمية خاضعة لأحزاب معظمها في السلطة. ويخشى أن “تنصاع” إلى أوامرها بالعودة إلى المدارس كما حصل سابقاً، بعد إغرائها بإجراءات موقّته كتسديد مستحقات (بدل إنتاجية) عن شهري آب وأيلول، ليتعثّر العام الدراسي بعد شهرين أو ثلاثة. ويعوّل المصدر على وعي وزير التربية واستخلاص العبر من السنوات الفائتة.
واعتبر أن قرار التراجع عن تنفيذ عقوبات تأديبيّة بحقّ 3 آلاف أستاذ، يُشير إلى نوايا حسنة، قد تساعد في حلحلة الأمور. أمّا عن رسم التسجيل الذي ارتفع من 800 ألف إلى 6 ملايين و31 ألفاً، فيلفت أحد مدراء المدارس إلى أنّ العديد من أهالي الطلاب اللبنانيين عاجزون عن تسديدها دفعة واحدة، خصوصاً إذا كان لدى الأسرة الواحدة طالبان أو أكثر. في المقابل، لا تواجه العائلات السورية هذه المشكلة لتسجيل أولادهم في المدارس الصباحية أي غير المعنية بتعليم النازحين، لا بل كانوا المبادرين الأول لتسجيل أولادهم»، مردفاً أنّ «لا ذنب لهم في تقصير الدولة بحق مواطنيها».
“الوزارة الأهليّة”
إلى جانب لعبة شدّ الحبال بين الأساتذة والوزارة وتهديد مصير أكثر من 300 ألف طالب، هناك من يسعى إلى “فكفكة” العقد من خلال مبادرات فردية ومدنية والتحرّر من «قبضة» و”استفزازات” و”إغراءات” مؤسسات الجهات المانحة. “فلس الأرملة” أفضل من “دولارات الأمم”. لن يكون التعليم على حساب المصلحة الوطنية.
لن ينتظر الأهالي والهيئات المجتمعية إستقامة الدولة وانتظام عملها المؤسساتي وإلا شاخ الطلّاب في منازلهم. مع إنسداد الأفق الحكوميّ وحلولها حتّى الآن و»حرد» الجهات الدولية المانحة وإحجامها عن مساعدة المدارس وربطها بدمج وتعليم الطلّاب السوريين، تتشكّل في بعض المناطق اللبنانية «وزارات أهليّة» لا سيّما المتن وكسروان وجبيل، لمساعدة الأساتذة على العودة إلى مدارسهم والحدّ من النزيف المستمرّ الذي يضرب القطاع التعليمي الرّسمي.
صحيح أنّ نشأتها ونشاطها التربوي يعودان إلى العام 2015 ومساهمتها في دعم وإعلاء شأن المدرسة الرسمية، إلّا أنّ جمعية “أصدقاء المدرسة الرسمية في المتن” تلعب هذه السنة دوراً كبيراً في ظلّ الأزمة الإقتصادية. إذ تشير رئيسة الجمعية راغدة كاوركيان يشوعي، إلى وضع خطة إنقاذية للسنة الدراسية المقبلة في المدارس والثانويات الرسمية في الأقضية الثلاثة. وإذا نجحت التجربة “ستعمّم في كل لبنان”.
أطلقت الجمعية حملة تشبيك الأيادي من خلال لقاءات مع رؤساء البلديات ومخاتير وفاعليات المناطق التي فيها مدارس وثانويات وبمشاركة المغتربين والمنتشرين. في كلّ بلدة يوجد مغترب أو متموّل من أصحاب الشركات ورجال الأعمال. بدأ العمل في الأقضية الثلاثة على جمع البيانات لمعرفة عدد الأساتذة والمدارس الرسمية. كما أنشئت لجنة مصغّرة مكوّنة من مدير المدرسة ورئيس البلدية أو من ينتدبه ومُمثّل عن لجان الأهل وأحد أعضاء الجمعية.
تعد بلدية بكفيا – المحيدثة على سبيل المثال لا الحصر، نموذجاً ناجحاً لمسار الخطّة الأهلية، حيث تسعى اللجنة إلى تأمين راتب 300 دولار و50 دولاراً بدل نقل لكلّ أستاذ طيلة العام الدراسي (8 أشهر)، إضافة إلى مبلغ الـ250 دولاراً الذي يتقاضونه من الدولة، ليصبح الراتب 600 دولار (حسب مطلب الروابط التعليميّة). ويبلغ عدد الأساتذة في بكفيا حوالى 35 مُدرّساً في الثانوية و10 في المدرسة المتوسّطة.
ويتمّ التواصل مع الجاليات اللبنانية لا سيّما في أستراليا التي أبدت اهتماماً بالغاً في هذه القضيّة، ويدور البحث اليوم حول الآلية المطلوبة لإرسال الأموال، شرط ألا تمرّ عبر المصارف أو الجهات الحكومية. وفي حين تعاني المدارس الرسمية نزوحاً كبيراً نحو الخاصة، تشهد مدارس بكفيا الرسمية هجرة معاكسة، إذ يتوقّع أن يرتفع عدد طلابها عن السنة الفائتة. والإهتمام الأهلي لا ينحصر في إطار تأمين رواتب الأساتذة فقط، بل يستهدف نشاطات ثقافية وتربوية، وتطوير المدرسة من الناحيتين التقنية والفنيّة عبر تركيب ألواح الطاقة الشمسيّة.
“بطاقة صحيّة”
كما في التربية كذلك في الصّحة. من المسائل المهمّة واللافتة التي تُخطّط لها جمعية “أصدقاء المدرسة الرسمية” وتسعى إلى تنفيذها، هي «البطاقة الصحية» للأساتذة وعائلاتهم في جبيل والمتن وكسروان، بالتعاون مع “الصندوق التعاضدي لرابطة الأخويات في لبنان” و”الصندوق الماروني|”. فالتأمين الصحّي (in – out)، سيغطّي وفق يشوعي حوالى 1100 شخص، لسنة كاملة، بكلفة إجمالية تصل إلى مليون و250 ألف دولار، موضحة أنّ التأمين سيُمكّن المستفيدين من دخول كل المستشفيات العريقة والمهمّة، من بينها «الجامعة الأميركية في بيروت».
ولفتت إلى أن الجمعية ستعقد اجتماعاً مطلع الأسبوع القادم، لبحث التفاصيل كافّة، وإطلاق المشروع على أوسع نطاق بالتعاون مع المؤسسات الإعلامية. وأردفت أنّ الفكرة لاقت حماساً لدى بعض الفنانين للمساعدة في تسويقها. وأكّدت أنه في حال نجاح هذا العمل، سيتمّ تعميمه على كل المناطق اللبنانية.
وختمت يشوعي متطرّقة إلى نقطة مهمّة إذ شدّدت على أنّ الجمعية لا تتلقّى أموالاً مباشرة، فهي صلة وصل بين المانحين أو الداعمين والمستفيدين. ودعت رئيسة الجمعية الجميع إلى “التعاون والمساهمة بدعم المدرسة الرسمية كونها الملجأ الأساسي لكثير من المتعلّمين”، وتمنّت على “باقي الأقضية العمل بكل قوّة لدعم التعليم الرسمي”، مؤكّدةً “جهوزية الجمعية لتقديم أيّ مساعدة في هذا الشأن”.
بين وزارت رسمية متعثّرة و “وزارات أهلية” ساعية إلى فتح أبواب المدارس في نطاق نشاطها وقدراتها، تبقى شريحة واسعة من طلاب الرّسمي غير المحظوظين بدعم اللجان أو البلديات أو المتمولين ورجال الأعمال، في صفوف المجهول. مساكين هؤلاء التلامذة وأهاليهم وأساتذتهم. هم متروكون لمصيرهم، لا دولة ترعاهم، ولا جهات أممية تراهم خارج منظار النازحين. لم يعد التعليم حقّاً إنسانيّاً متاحاً للجميع يكفله الدستور والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان. 9 تشرين الأوّل، سيكون امتحاناً رسميّاً مفصليّاً للحكومة والوزارات المعنيّة. هل تنجح أم ترسب في إنقاذ ما تبقّى من مخزون لبنان الثقافي والعلمي؟