كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
يغرق اللبنانيون في جدلهم الصاخب حول هوية الرئيس المقبل للجمهورية وسط توقعات متباينة حيال مدة الفراغ الحاصل على مستوى رئاسة الجمهورية، والحالة المزرية جرّاء تفكك مؤسسات الدولة وتحلّلها.
وما يُضاعف من حجم المأساة اندفاع أطراف الطبقة السياسية في أسلوبهم المعروف والقائم على التلاعب السياسي والالتفات فقط لحسابات المصالح الضيقة والشخصية وليس المصلحة العامة.
من هنا، أصبح الاستحقاق الرئاسي وامكانية إيجاد حلول له أسير القرار الخارجي.
صحيح أن الجدل الداخلي الصاخب يحجب الرؤيا عن التطورات والتبدلات الخارجية والتي تصيب ساحات غير بعيدة، الا أنه لا بد من التوقف ملياً أمام التحولات الكبرى التي تصيب الشرق الأوسط لأن تأثيرها يصيب الساحة اللبنانية الفاقدة للحصانة والمناعة الذاتية.
وبات معروفاً أن العالم تغير، وانتقل من حقبة احادية الزعامة الاميركية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي الى حقبة جديدة تقوم على تنافس حاد بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين من جهة وبكين وموسكو وعواصم أخرى متحالفة معهما.
هذا التنافس أنتجَ ظهور تكتلات دولية عدة في اطار الاصطفافات القائمة. فبعد مجموعة دول البريكس والتي ضمّت دولا ناشئة، ظهر تكتل دول «كواد» المؤلف من الولايات المتحدة واليابان والهند واستراليا. كذلك برزت نواة لناتو آسيوي يتألف من الولايات المتحده واليابان وكوريا الجنوبية. وفي المقابل تفاهمات اقتصادية وعسكرية من خلال معاهدات طابعها استراتيجي بين الصين وايران وبين ايران وروسيا وبين الصين وكوريا الشمالية . لكن آخر هذه التكتلات الدولية والتي تشكل تحولات كبرى، ظهرت في الشرق الأوسط من خلال ما عُرف باتفاقيات ابراهيم، حيث يجري العمل على انجاز مراحلها النهائية من خلال الحلقة السعودية – الاسرائيلية.
طبعاً، لا حاجة للاشارة الى المردود السياسي لخط ربط الهند بالشرق الأوسط فأوروبا.
وجاء اعلان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن الاقتراب من خطوة التطبيع مع اسرائيل ليؤكد وجود تحولات كبرى تجري في المنطقة ما يُحتّم على الدول الصغيرة مثل لبنان قراءة خلفياتها بتروٍ وتأن وبكثير من الحكمة.
فثمة تطورات حصلت لا بد من التمعن بها. فزوال كيان كان قائما في ناغورنو كاراباخ وتنفيذ «ترانسفير» بحق الأرمن بعد نزاع دام عدة عقود، والأهم من دون حصول ردود فعل دولية كبرى، إنما يعني وجود تفاهمات في الخفاء وصفقات خبيثة.
كذلك ازاحة اكراد ايران عن الحدود الايرانية ودفعهم بعيدا بعد انتزاع اسلحتهم رغم الاحراج الذي أحدثه ذلك لسلطات كردستان العراقية، إنما يصب في اطار الصفقات المخفية.
وفي سوريا، وبالتزامن ايضاً «انتفاضة» لدروز السويداء مع رفع مطلب الحكم الذاتي وصراع حاد لإعادة ترتيب ميزان القوى خصوصا في دير الزور حيث الحقول النفطية والتي كانت عناصر فاغنر قد انسحبت من حولها بعد مقتل زعيمها. وتعمل موسكو سريعاً على تجهيز قوة بديلة لمنع ايران من ملء الفراغ الحاصل. وفي الاطار نفسه جاءت الرحلة الغامضة من حيث نتائجها للرئيس السوري الى الصين.
وبالتزامن أيضاً مَرّرت روسيا والصين ايضا صيغة مجلس الأمن حول التجديد لقوات الطوارىء الدولية، والتي اقترحتها واشنطن رغم الاعتراض الشديد لـ»حزب الله» عليها.
لا بل أكثر، فإنّ مستشار الرئيس الأميركي آموس هوكستين كان قد زار لبنان واجرى مفاوضات وصفها بالايجابية حول الحدود اللبنانية البرية الجنوبية بعد ترسيم ناجح للحدود البحرية قبل عام. والأهم أنه يتحضر لعودة ثانية قريبا لاستكمال هذا الملف الذي يتقدم بسرعة. وجرى رصد الكلام الذي اطلقه مسؤول «حزب الله» وفيق صفا، والذي قال فيه إنّ «حزب الله» يسير خلف ما توافق عليه السلطة اللبنانية، تماما كما حصل في الترسيم البحري، وهو ما فسّر بأنه اشارة ايجابية.
كل هذا المشهد لا بد أن يحمل خيوطاً مترابطة ترتكز على أساس اعادة رسم خارطة الشرق الأوسط.
وما يدعم هذه القراءة الاشارة الايجابية للرئيس الايراني في نيويورك وما تلاها على لسان وزير خارجيته. فبعد أن اقترحت اليابان استئناف المفاوضات لاحياء اتفاق 2015، جاء كلام رئيسي بأن ايران لم تغادر طاولة المفاوضات. كذلك اشار عبد اللهيان الى وجود اجواء ايجابية أبداها مسؤولون اميركيون سابقون خلال وجوده في نيويورك.
قد تكون ايران تعمل على عدم استفرادها في حال حصول التطبيع السعودي – الاسرائيلي، لكن ذلك لا ينفي نظرية حصول ترتيبات واسعة في الكواليس.
وهو ما يعني بأنّ لبنان ليس بمنأى عن تفاهمات اعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الأوسط. والتسوية اللبنانية لا بد أن تكون مرتبطة بهذا المشهد.
صحيح أنّ الكلام عن عودة هوكستين سيؤدي الى تقدم كبير حول الحدود البرية الجنوبية، لكن ربط البعض ملف الحدود بالملف الرئاسي لا يبدو واقعيا. فما للجنوب للجنوب وما لبعبدا لبعبدا. تماماً كما جاء الترسيم البحري في اطار اللعبة الأوسع في المنطق ودفع ثمنه يومها في العراق.
أما الملف الرئاسي وما حوله فهو متروك للجنة الخماسية بعد أن حسمت فرنسا «صراع الاجنحة» داخل ادارتها لصالح التماهي مع السعودية، والذي يمثّله الممثل الرئاسي جان ايف لودريان. ولهذا السبب عقد اجتماع السعودية بين لودريان ووزير الخارجية السعودي، كتأكيد على تحرّك موحد وقريب وفق السقف الذي جرى تحديده في بيان الخماسية في الدوحة.
وجرى التفاهم على وضع خارطة طريق لتحرك الخماسية من خلال لودريان، أي حفظ الدور الفرنسي وتجنيبه آثاراً سلبية بعد سقوط المبادرة الفرنسيّة وكان مدروسا ان تكون زيارة لودريان المقبلة بعد حوالى الشهر، أولاً لتمرير زيارة هوكستين وإنجاز مهمته، وثانياً كي يكون قد جرى وضع كافة التفاصيل التنفيذية لخارطة الطريق على أن يتولى لودريان التصرّف وفقها. وكذلك أن تكون الصورة الاقليمية اصبحت أكثر اتضاحا لا سيما بالنسبة للملف اليمني.
لكن ليس هناك من شيء مضمون لأنّ التعقيدات والتشابكات كبيرة، اضافة الى أننا في الشرق الأوسط أرض المفاجآت غير المحسوبة.