كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
مع مرور عام كامل على توقيع لبنان اتفاق ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل، في تشرين الأول 2022، ثمة إشارات إلى أنّ صفقة الترسيم البري باتت هي الأخرى على وشك الإنضاج في كواليس العواصم المعنية، من بيروت إلى واشنطن فطهران.
كما كان متوقعاً، أعلن «حزب الله»، بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أنّ على الدولة اللبنانية أن تتحمّل مسؤولياتها في ملف الترسيم البري. وهذا هو نفسه موقف «الحزب» خلال المفاوضات التي دارت قبل عام من أجل التوصل إلى اتفاق الترسيم البحري.
بالنسبة إلى «الحزب»، كان ملف تلك المفاوضات في أيدٍ أمينة. فالرئيس نبيه بري هو مَن تولّى المفاوضات مع الوسطاء الأميركيين الذين تعاقبوا على الملف، وهو مَن أقرّ اتفاق الإطار. وبعد ذلك، جاءت الدولة اللبنانية مجتمعة، برمزية رئيسها، لتعلن ولادة الاتفاق في قالبه الشكلي، أي أنّها قامت بتحويل الفكرة التي تمّ الاتفاق عليها مع رئيس المجلس إلى الصيغة القابلة للتوقيع والتنفيذ.
لو كان «حزب الله» يعترض على المفاوضات غير المباشرة لما تمّت، ولو كان يرفض صيغة الاتفاق كما تمّ إقراره لما تمّ توقيعها. وخصوصاً، لو كان يعترض على الخط 23، وعلى البند المتعلق بحصّة إسرائيل من موجودات حقل «قانا»، لاعتبر الأمر اعتداءً على السيادة وتصدّى له وعطّل الاتفاق.
حينذاك، ارتفعت أصوات في المعارضة تقول إنّ المساحة البحرية التي تخلّى عنها لبنان، وهي من حقه، يجب أن يتعاطى معها كما مزارع شبعا في البر. لكن ما كُتب كان قد كُتب في الاتفاق. واعتبر «الحزب» أنّ لبنان الرسمي حقّق انتصاراً على إسرائيل بانتزاع حقّه في استخراج موارده الغازية والنفطية.
اليوم، يبدو أنّ الدور قد وصل فعلاً إلى الترسيم البري، حيث سيكون التحدّي الأبرز هو مزارع شبعا ذاتها. فالحدود اللبنانية- الفلسطينية لا تحتاج إلى ترسيم، وهي مرسّمة في زمن الانتداب الفرنسي في العام 1923، وكل ما في الأمر هو أنّ هناك نقاطاً معينة يتحكّم بها الإسرائيليون، داخل الأراضي اللبنانية. وإذا تمّ اتفاق الترسيم، فعليهم أن ينسحبوا منها إلى الحدود الدولية التي يعترفون بها منذ أن وقّعوا اتفاق الهدنة في العام 1949. وهذه الحدود تحظى بموافقة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة جميعاً، وبينها إسرائيل.
قد يكون الأكثر إثارة في مفاوضات الترسيم البري بين لبنان وإسرائيل هو الإشكالية الواقعة في الخط الجنوبي مع سوريا، حيث هناك خلاف بين بيروت ودمشق على العديد من النقاط. وهو خلاف يتكرّر في نقاط عدة من مزارع شبعا امتداداً إلى مجمل الخط الذي يقسم سلسلة جبال لبنان الشرقية. وطبعاً، هو يمتد في عمق البحر قبالة الشاطئ الشمالي. ولذلك، سيحتاج الأمر ذات يوم إلى اتفاق ترسيم مع سوريا، ليتمكن لبنان من استخراج الغاز والنفط في الحدود الشمالية، على غرار ما جرى في الحدود الجنوبية.
وثمة من يعتقد أنّ التفاهم على إنجاز الترسيم البري ليس وليد الساعة، بل تمّ قبل عام، خلال التفاهم على اتفاق الترسيم البحري، وأنّ هذا الأمر بقي واحداً من البنود غير المعلنة في ذلك الاتفاق. ولذلك، حضر الوسيط الأميركي هوكشتاين سريعاً إلى الجنوب، في نهاية آب الفائت، ليشهد على اللحظة الأولى لبدء التنقيب في البلوك 9، وليعلن عن إطلاق مسار الترسيم البري، من دون أي اعتراض في الجانب اللبناني.
وفي الواقع، يحرص الجانبان الأميركي والإسرائيلي على إتمام الترسيم براً، ولو أنّ ذلك سيؤدي مبدئياً إلى انسحاب إسرائيل من نقاط عدة تحتلها اليوم. ولذلك، ثمة من يسأل: لماذا يتحمّس الأميركيون والإسرائيليون إذاً لهذا الترسيم؟
الواضح أنّ إسرائيل وحلفاءها يعيشون اليوم هاجساً أساسياً هو حماية أمن الطاقة. فهي لا تستطيع الاستفادة من مواردها إلاّ في مناخ أمني مضبوط تماماً. كما أنّ الشركات الأجنبية العاملة في البقعة المتوسطية المحاذية للبنان وإسرائيل لا يمكن أن تعمل إلاّ إذا توافر هذا المناخ الذي ستضطلع «اليونيفيل» بدور أساسي فيه.
واستباقاً لاستحقاق التفاوض حول الحدود البرية، سارع «حزب الله» إلى ربط النزاع مع إسرائيل، من خلال الخيمة التي أقامها في منطقة مزارع شبعا. فهذه الخيمة، برمزيتها، هي التجسيد العملاني لكون «الحزب» هو الطرف الأساس في مفاوضة إسرائيل.
بل إنّ اتفاق الترسيم البري المنتظر، وبمعزل عن كيفية مقاربته لملف مزارع شبعا، فإنّه سيمنح «الحزب» موقع الطرف القوي القادر على ضمان الحدود والتزام التفاهمات. وتدرك إسرائيل والولايات المتحدة أنّ أي طرف لا يمكنه أن يحلّ ويربط في لبنان سوى «حزب الله».
وفي الخلاصة، الاتفاقات تُعقد عادةً بين الأقوياء، ولا دور للضعفاء فيها، ولا أحد يقيم لهم وزناً إلى طاولة التفاوض.
وهذا يعني أنّ «الحزب» سيحصل على مكاسب أخرى في الداخل اللبناني، مكافأةً له على الانخراط في مناخات التوافق. وستكون التسوية السياسية المفترضة، أي انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، أول هذه المكاسب، ولكن لا آخرها.