بقلم الدكتور جورج شبلي:
كلّما استعرَضتُ المشهدَ الحالي لبلادِنا، مع تَدَفّقِ السوريّين، أراني أقتنعُ، أكثرَ فأكثر، بأنّ الشّريدَ ليسَ السّوري، بل وطنَنا المسكين. نعم، فلبنانُ محكومٌ عليهِ أن يتبدَّلَ إسمُهُ، من هنا، هو بحاجةٍ الى وكالةِ غَوثٍ تقومُ بمهمَّتَين : طَرح قضيةِ لبنان على منابرِ القرارِ الدّوليّ المُتَفَهِّمَة، وبجرأةٍ وإصرار، للتدخّلِ السريعِ مع المرجعيّات الفاعلة لإنقاذِ البلادِ من مصيرِها القاتِمِ والمعروف، وإخضاعُ المسؤولينَ والقياديّينَ، عندَنا، لدوراتٍ تُعيدُ تأهيلَهم وطنياً، إنتماءً وولاءً ودفاعاً عن حقِّ الوطن، ومن دونِ استرجاعٍ لمفرداتٍ بائدةٍ من قواميسَ مهترئة.
إنّ مجرياتِ الأحداثِ لن تصبَّ في مصلحةِ الوطن، ونتائجَها ستأتي بعكسِ ما يشتهي، مهما عملَ البعضُ على تلطيفِ انعكاساتِها السّالبة، لأنّ ما وراءَها غيرُ بريء.
وحتى السّاعة، لا نجدُ أحداً، شقيقاً أو قريباً، يندفعُ لقَلبِ الموازين، وإنتاجِ تَحَوّلٍ يستعيدُ عقربَ البوصلةِ ولا يسمحُ له بأن يتوجّهَ بلبنانَ صوبَ شِدقِ الخطرِ الدّاهم. وكأنّ المؤامرةَ القبيحةَ لتقويضِ الدولةِ، كياناً وسلطةً وأرضاً وشَعباً، والتي صُنِعَ قرارُها في الخارج، قد بَنَت لها تشكيلاتٍ داخليّةً تخدمُ خُطَطَ هذا الخارجِ التّدميرية، والذي لم يستطعْ إخفاءَ مصالحِهِ الملتبسةِ التي تُسقِطُ الحقَّ لِحسابِ الباطل.
إنّ تَلَهّينا بانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة، ليسَ في زمانِهِ، بالرَّغمِ من أهميّةِ هذا الإستحقاق. فالأفرقاءُ يتمادونَ في المساجلاتِ، وبصراخٍ بغَيرِ صدًى، وهم بحاجةٍ ماسّةٍ لصدمةٍ نوعيّةٍ تُعيدُهم الى مواجهةِ ما يجري، يوميّاً، وتحتَ أنظارِ القيّمينَ على الحُكمِ والأمنِ، من انتهاكٍ لحدودِ الوطنِ الشّرقيّةِ والشّماليّة، بإدخالِ الآلافِ من السوريّينَ، وأغلبُهم من الفئةِ العُمريّةِ الشّابّة، ما يؤدّي، حُكماً، الى استكمالِ انهيارِ البلادِ إقتصادياً، والى إنهاكِ قدراتِ الدولة، والى إفلاسِ المؤسّساتِ والمصالح، والى تشويهِ صورةِ لبنان، وكلُّ ذلك مقدّمةٌ لقَلبِ نظامِ الحُكمِ، ولترسيخِ سيطرةٍ هجينةٍ مستوردةٍ مُستَقويةٍ، ما يضعُ لبنانَ على فوّهةِ انقلاب.
إنّ الوطنَ، أيّها المُتَلَهّون، هو هيكلٌ معرَّضٌ للسقوطِ في كلِّ لحظة، فأيُّ أَمَلٍ يلوحُ، بعدُ، أمامَ المستقبل ؟ إنّ ما يُطلِقُ عليهِ البعضُ ” نزوحاً ” هو، في الحقيقةِ، غَزْوٌ مشهود، وما تَوصيفُهُ بالهروبِ من الفَقرِ والعَوَز، إلّا تَكاذُبٌ ومراوغة. والأدهى أنّ قراراتِ المجتمعِ الدّوليّ الأَعوَر، بهذا الخصوص، تحاولُ إقناعَ اللبنانيّينَ بأنّ واقعَ النّزوحِ، بنَمائِهِ المُريب، هو قَدَرٌ لا سبيلَ لتَجَنّبِهِ، وأنّ المجتمعَ اللبنانيَّ بكاملِهِ، سيُجَرُّ الى حَيّزِ القَبولِ الطَّوعيِّ به، إن لم نَقُلْ الى حَيِّزِ الخضوع.
في مقابلِ النّزوحِ الطَّوفانيِّ، يزدهرُ، في بلادِنا، موسمُ الوداع، فالكثيرُ من الشّبابِ، وَعْدِ الغَدِ الآتي، يبتلعُهُ الأُفٌقُ فتتحوّلُ مؤهّلاتُهُ الى غيرِ بلاد، ويَفيدُ من مقدراتِهِ غيرُ أهلِنا. فالنّزوحُ الكثيفُ، والهيمنةُ على المصالحِ والأشغال، والمنافسةُ غيرُ المتكافئة، تخنقُ الطّموح، وتقتلُ القرارَ بالبقاء، وتدفعُ الى مشروعِ الهجرةِ مصيراً لا بديلَ منهُ لطاقاتِنا الشابّةِ المثقَّفة. فهل يتصدّرُ حركةَ الشبابِ، اليوم، غيرُ هذا المشروعِ المَقيتِ الذي يُبقي الوطنَ مُكَرسَحاً ؟
للأسفِ، لقد سادَ في دولتِنا التي يستأثرُ فيها مٌستبِدٌّ مُستَقوٍ، ثابِتٌ لسنا قادرينَ على الخروجِ من بين قضبانِهِ، هو النّزوحُ السوريّ الكثيف، الذي يبرّرُهُ بعضُهم بتلفيقاتٍ خبيثةٍ ومزيَّفة، تطعنُ بمصلحةِ البلادِ والعِباد. وللأسف، أيضاً، لا نسمعُ مِن مُعارِضي هذا النّزوحِ الخطير، إلّا الكلامَ و” الهَوبَرَة ” التي لا تُجدي نَفعاً. وكأنّ هذه المعارضةَ الرَّخوةَ هي موقفٌ نَظَريّ، فقط، يستهينُ بها أقطابُ ” التَّنزيح ” الخارجيّونَ وأولادُ البلدِ المتواطِئون، لينهشَ النّزوحُ الوطنَ بشكلٍ فاضح، ويشكّلَ حقلَ أَلغامٍ مُفَخَّخٍ مستعدٍّ للغزوِ، ومرتاحٍ الى نُصرَةِ ذَوي القُربى البلديّين. إنّ هذه المسألةَ قسمتِ الناسَ الى فئةٍ اعتبرَتها اعتداءً صارخاً على سيادةِ البلاد، والى فئةٍ ثانيةٍ رحَّبَت بها، ومهّدَت لها المَعابرَ، والمخيّماتِ، والإمكانيّات، للإستقرارِ المُريحِ في رِحابِ الوطن ِ المُنهَك.
إنّ مطلبَ مواجهةِ الغَزوِ السّوريّ بالنّزوح، ينبغي أن يكونَ مطلبَ إجماعٍ وطنيٍّ تضمحلُّ أمامَه الإعتباراتُ المذهبيّةُ، والطائفيّةُ، والسياسيّةُ، والشخصيّة، وهي اعتباراتٌ تشكّلُ عاملَ فِرقة، كما أنّ الذين يعملونَ على إجهاضِ هذا المطلب، وهم خَوَنَةٌ عُملاء، لا تكفي المقصلةُ لإدانتِهم.