ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “في البداية لنرفع الصلاة كي يلهم الرب الاله قادة شعوب هذه المنطقة وحكامها، وحكام الأرض، كي يكونوا أمناء لمشيئته، حافظين لكلمته، عاملين من أجل مصلحة شعوبهم وخير الإنسان. حمى الله هذه المنطقة وحمى لبنان”.
وأضاف: “أحبائي، يخبرنا إنجيل اليوم عن معجزة إقامة ابن أرملة نايين التي فقدت وحيدها وكانت تسير في جنازته باكية منتحبة، ككل الأمهات اللواتي يفقدن فلذات أكبادهن. يأتي مقطع إنجيل اليوم بعد تحول قائد المئة من الوثنية إلى الإيمان بالمسيح يسوع، أي من موت الخطيئة إلى الحياة مع الرب، أما هنا فنحن أمام معجزة قيامية باهرة. فإن البشر يرون في الموت ذاك الوحش الآتي ليختطف الإنسان المفعم حياة، ويجعل منه جثة هامدة. أما التجربة الأصعب لدى البشر فهي موت طفل أو شاب. هذا ما نحن أمامه في إنجيل اليوم. لقد كان الرب يسوع في كفرناحوم، فقصد وتلاميذه نايين. وصلوا عند المساء، وكانت عادات الشعب في ذلك الحين أن يدفن الميت مساء. في ظلام هذا العالم تقابل شمس العدل، النور الذي لا يغرب، مع ظلمة الموت المدلهمة، فزهق الموت وقام الشاب باعثا الفرح في قلب والدته الأرملة. كانت لليهود عادات وطقوس خاصة بالدفن مؤلمة للنفس، وخالية من أي رجاء بقيامة عتيدة أو حياة أبدية. أفكارهم عن الموت كانت مخيفة، إذ كيف لشعب فاقد الرجاء ولا يعرف كيف يعزي نفسه، أن يعزي أما ثكلى بسبب موت وحيدها، بعدما فقدت رجلها أولا؟”
وقال عودة: “إذا، تقابل حياة الكل مع موكب أحياء بلا رجاء، أحياء-أموات بسبب الحزن والأسى، فقلب حياتهم السوداوية إلى حياة مليئة بالغبطة السماوية. لقد تجسد المسيح ليخلصنا من آلامنا وأحزاننا ومآسينا التي جلبتها علينا الخطيئة. هذا ما يذكرنا به الرسول يوحنا في نهاية العهد الجديد، في سفر الرؤيا قائلا: «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» (21: 4). لمس الرب يسوع نعش الميت، فوقف موكب الجنازة في انذهال، لأن الرب قام بعكس ما يعلمه الكهنة والفريسيون القائلون بأن عواقب وخيمة ومرعبة تصيب كل من ينجس نفسه بلمسه نعش ميت، طبعا باستثناء حامليه. إنتظر الناس المحزونون أن يصاب الرب يسوع بلعنة ما، كونهم لم يكونوا يدركون هويته الحقيقية بعد، إلا أنه أدهشهم عندما قال: «أيها الشاب لك أقول قم»، فرأوا ماذا يمكن للمسة المحبة أن تفعل: إنها تقيم الموتى، ولا تصيبها نجاسة البتة. قبل أن يلمس الرب نعش الفتى، طلب من أمه الأرملة ألا تبكي. لمس قلب الوالدة قبل نعش ابنها بعبارة: «لا تبكي» التي لو قالها لها أي إنسان، مهما كان قريبا منها، لما تعزى قلبها. نقرأ في سفر أيوب الصديق: «معزون متعبون كلكم» (16: 2). البشر لا يستطيعون تعزية أحد. الله وحده قادر أن يحول لهيب الحزن وسيفه الذي يخترق قلب الأم إلى راحة وغبطة قيامية”.
وأضاف: “نقف أمام هذا المشهد وكأننا أمام سمعان الشيخ الذي قال للعذراء مريم: «وأنت أيضا يجوز سيف في نفسك، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة» (لو 2: 35). أو أمام مشهد الصلب حيث جاز هذا السيف في قلب العذراء، التي لا رجل لها، مثل أرملة نايين، سوى ابنها الوحيد الشاب. نتذكر هنا أيضا ما نسمعه في خدمة جناز المسيح، مساء يوم الجمعة العظيم، على لسان الرب القائل: «لا تنوحي علي يا أمي إذا شاهدتني في قبر… لأني سأقوم وأتمجد»، وهذه تشبه عبارة: «لا تبكي» مع كل ما تحمله من معان كمثل: لا تبكي، فأنا القيامة والحياة… لا تبكي فأنا أيضا سأكون مضجعا في قبر مثل وحيدك، وستنوح والدتي لموتي، لكنني سأقوم وأقيم جميع المائتين منذ الدهر. تختلف هذه المعجزة عن إقامة ابنة يايرس أو لعازر، إذ نجد المسيح هنا مبادرا من دون أن يسأله أحد، ليعلن للجميع أنه جاء إلى هذه الأرض ليمنح الحياة والقيامة للبشر، ليس جسديا فقط، بل روحيا أيضا، ماحيا الخطيئة ومانحا إيانا قدرة على مكافحتها بدموع التوبة، لا بدموع حزن ويأس وانعدام رجاء. القيامة من موت الخطيئة أهم بكثير من قيامة جسد سيموت مجددا، لهذا فإن الحياة الأبدية تحظى بها النفوس التائبة والمحبة، لا الأجساد الترابية والقلوب الحجرية. لمسة من جسد الرب تحيي الملموس، أما جسد المسيح ودمه الكريمان اللذان نتناولهما في كل قداس إلهي، فهما «لمغفرة الخطايا والحياة الأبدية»، لذلك قال القديس يوحنا الذهبي الفم إنهما جمرة تحرق غير المستحقين. إذا، معجزة إقامة ابن الأرملة هي دعوة لكل منا، كي نستجيب للمسة الرب المحيية، فنقوم من موت خطايانا، ونحيا مع المسيح، حسب كلمته ووصاياه”.
وأشار عودة إلى أن “شباب هذا البلد يموتون الواحد تلو الآخر. منهم من ينتحر، ومنهم من ينجر وراء ألاعيب الشيطان المميتة، ومنهم من ييأس وينزوي ويفقد حماسة العيش، ومنهم من يموت فيه الأمل بنهضة هذا البلد فيتخلى عن ذكرياته وما يربطه به ويرحل إلى بلاد جديدة ليبدأ حياة من الصفر، هذا عدا عمن يموتون إما برصاص ابتهاج طائش، أو بسبب طرقات لا إنارة فيها ولا أيا من مقومات السلامة العامة. فمن ينظر من المسؤولين إلى هؤلاء، وسواهم؟ وفي حديثنا عن الطرقات، ومع اعتراف الجميع بتقصير المسؤولين المزمن، لا بد من لفت النظر إلى مسؤولية المواطنين في بعض ما نعيشه. فالسيول التي تغرق الطرقات عند هطول الأمطار المفروض أنها نعمة، هي نتيجة إهمال المواطنين ورميهم القذارات في الشوارع، ولامبالاتهم بنظافة طرقاتهم ومجاري الأنهر وشواطئ البحار. أما ازدحام السير وما ينتج عنه من حوادث فهو أيضا بسبب اللامسؤولية وانعدام الأخلاق، وتخطي قوانين السير، وتجاهل الإشارات الضوئية، والقيادة بعكس السير والتوقف في الأماكن الممنوعة، وغيرها من التجاوزات، بالإضافة إلى ما يسببه سائقو الدراجات من خطر على السلامة العامة بسبب قلة المسؤولية والتهور وقلة الأخلاق”.
وختم: “لو كانت الأخلاق والفضائل مغروسة في النفوس لما وصل بلدنا إلى الحضيض الذي نرزح فيه. عماد المجتمع الأخلاق. زينة البشر الأخلاق. ركيزة المواطنة الأخلاق. بدون أخلاق تنهار المجتمعات ويفتش كل فرد على مصلحته ولو على حساب الآخرين. وهذا ما نعيشه في هذا البلد الذي تخلى معظم المسؤولين والمواطنين فيه عن واجباتهم وعن أخلاقهم. ولن تستقيم الأمور في غياب رئيس وسلطة قوية تفرض القانون على الجميع، وتعاقب كل مخل بالأمن أو معتد على القانون أو على السلامة العامة. دعوتنا اليوم أن نقوم مع المسيح الحياة، ونعيش بحسب لمسته المحيية، ولا ندع الشرير يغلبنا بمصائده التي تتكاثر يوما بعد يوم”.