كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
من المفترض أن يصل اليوم الى اسرائيل وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن، في أول زيارة لمسؤول اميركي ودولي رفيع بعد اعلان اسرائيل حال الحرب. لكن زيارة بلينكن كان قد استبقها الرئيس الاميركي جو بايدن بخطاب عالي السقف، تضمّن مواقف نارية، ما يعطي الانطباع مسبقاً بأنّ زمن الحلول والتسويات الواقعية لم يحن بعد، وأنّ هنالك رهاناً على حصول تطورات ميدانية تُحدث تبدلاً واضحاً في موازين القوى، قبل الشروع في بناء معادلات اقليمية جديدة.
ولا شك أنّ المحور الاقليمي الذي تنتمي اليه حركة «حماس» يُجري قراءة متأنية للمسار الجاري رسمه وكيفية مواجهته.
فالامور تتدحرج باتجاه هجوم بري يستهدف غزة، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات عدة، كون ذلك سيعني إحداث تبدّل جذري في ميزان القوى والمعادلة القائمة على الساحة الشرق أوسطية.
ووفق تدرّج الأحداث، فإنّ مسارعة رئيس الحكومة الإسرائيلية الى اعلان حال الحرب بعد ساعات على عملية غزة، تلاه تبنّي الحكومة الإسرائيلية المصغّرة اضافة الى الكنيست لقرار حال الحرب.
وبعد ذلك ظهرت الخطوة الأهم من خلال الاعلان عن حكومة الوحدة الوطنية، ما يعني تجاوز الانقسامات الداخلية الحادة القائمة. وتفسير ذلك أنّ ثمة اتجاهاً كبيراً يستوجب هذه الخطوة. في الواقع فإنّ هنالك اجماعاً من المراقبين بأنّ نتنياهو اصبح جثة سياسية ستُعلن مراسم دفنها بعد انتهاء الحرب. فالاتهامات كبيرة حول مسؤوليته عن الكارثة التي لحقت بإسرائيل، ولكن تصفية الحساب معه مؤجّلة.
وتشكيل حكومة الوحدة يعني الشروع في الحرب البرية باتجاه غزة وإحداث تعديلات ميدانية نهائية، والتجارب التاريخية توجب عدم حصر الأهداف الاسرائيلية بغزة فقط، فقد تكون هنالك نوايا عدوانية تطال ما هو أبعد من غزة، لاعتقاد اسرائيل أنّ الظروف الدولية مؤاتية ويجب استغلالها.
وكانت اسرائيل أعلنت عن اتصال اجراه نتنياهو بالرئيس الأميركي، حيث أبلغه خلاله عن بدء العملية البرية باتجاه غزة خلال الساعات المقبلة. ولكن استدعاء قوات الاحتياط الاسرائيلية لا يلغي حقيقة الضعف الذي تعاني منه القوات الاسرائيلية البرية، خصوصاً بسبب افتقاد الجنود الاسرائيليين الى الروح القتالية. وهذا ما ادّى الى حال الانهيار السريع مع تقدّم عناصر حركة «حماس» الى مستوطنات غلاف غزة بسهولة عند بدء العملية العسكرية. فلقد بدت ردود الفعل العسكرية خلال فترة الـ 48 ساعة التي تلت هجوم «حماس» في حال ارتباك كبيرة، وبأنّ القيادة العسكرية لا تملك خطة.
الواضح أنّ القيادة العسكرية الاسرائيلية حاولت التعويض عن ذلك من خلال اتباع سياسة الأرض المحروقة وتدمير المباني السكنية والمنشآت القائمة وتسويتها بالارض.
ورغم ذلك، فإنّ قدرة الجيش الاسرائيلي على اقتحام غزة تبقى صعبة ومكلفة جداً خصوصاً في ظل التطور العسكري الكبير لمقاتلي «حماس».
أغلب الظن أنّ الجيش الاسرائيلي سيتجّه الى تغلغل يؤدي في أحسن الاحوال الى تقسيم غزة الى عدة قطاعات، ومن ثم التعامل مع كل قطاع لوحده وبمعزل عن الآخر ووفق معايير مختلفة.
وحتى في هذه الحالة، فإنّ المخاطر امام الاسرائيليين كبيرة، اضافة الى الحاجة الى اسابيع عدة، وربما فترة اطول. الواضح أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد. فالهدف هو بتغيير صورة غزة، وهو ما عبّر عنه صراحة وزير الدفاع الإسرائيلي.
وللدلالة على وجود هذا القرار الكبير، بدا أنّ نقطة الضعف الاسرائيلية والتي عملت عليها حركة «حماس» والمتمحورة باحتجاز رهائن، تتصرف اسرائيل وكأنّها تجاوزتهم، نظراً الى أهمية الهدف المنشود. تماماً كما فعل نائب الرئيس الاميركي السابق ديك تشيني في 11 ايلول، حين أمر سلاح الجو الاميركي بإسقاط الطائرة الاميركية الرابعة المختطفة بمن فيها، قبل أن ينفّذ الخاطفون مهمتهم.
وستعمل اسرائيل على الأرجح على دفع فلسطينيي غزة باتجاه مصر، وهو ما ترفضه القاهرة رفضاً قاطعاً.
وافتراضاً في حال نجاح اسرائيل في خطوتها في تقسيم ومن ثم تطويع غزة، فانّ امامها خيار من ثلاثة:1- اما ترك المنطقة تحت السيطرة الاسرائيلية، وهذا خيار مستحيل بالنسبة لاسرائيل كونه سيجعلها تحت وطأة جحيم حرب العصابات.
2- أو تكليف مصر أو هيئة عربية او دولية بمهمّة الاشراف الكامل عليها. وهذا ما يبدو صعباً جداً.
3- أو تركها تحت سيطرة السلطة الفلسطينية ولكن وفق مبدأ تسوية سلمية تقوم على أساس الدولتين، وهو ما كانت ترفضه احزاب اليمين الاسرائيلي ومن بينهم نتنياهو بالذات. ولكن المقصود هنا انتزاع الفلسطينيين من الحضن الايراني ووضعه في الحضن العربي والسعودي تحديداً، وهو ما يدخل في اطار رسم معادلة اقليمية جديدة. ولفت في هذا الاطار ما أدلى به الرئيس السابق للحكومة الاسرائيلية يائير لابيد الى شبكة الـ (cnn) حين أبدى تأييده لتسليم غزة لاحقاً الى السلطة الفلسطينية. كذلك لفت الاتصال الذي أجراه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، ما اعتُبر سعياً سعودياً لردّ الاعتبار لعباس والسلطة الفلسطينية.
لكن ما سبق يمثل جزءاً من المشهد. فثمة زوايا أخرى لا تقلّ خطورة وتعقيداً ومنها ساحة جنوب لبنان حيث الثقل الأكبر للنفوذ الايراني.
ومع وصول حاملة الطائرات الاميركية الأكثر تطوراً في العالم الى قرب الساحل الشرقي للبحر المتوسط، حطّت أول طائرة شحن عسكرية اميركية ضخمة في اسرائيل، وهي تحمل اطناناً من الذخائر والقنابل النوعية والمتطورة، والتي لم تُستعمل بعد، وهو ما تعمّدت الدعاية العسكرية الاسرائيلية على نشره بطلب اميركي. الواضح أنّ واشنطن تريد التعويض عن تراجع المستوى القتالي للجيش الاسرائيلي بالأسلحة والقنابل النوعية.
لكن المقصود هنا ليس غزة بقدر ما هو «حزب الله» وايران.
وكان ذلك واضحاً من خلال كلام مستشار الامن القومي الاميركي جيك سوليفان، حين قال إنّ ادارته لم تحرّك حاملة الطائرات لمواجهة «حماس»، بل لمنع التصعيد. وهو قصد ان يقول بوضوح لمنع تدخّل «حزب الله» او ايران في القتال. وكانت واشنطن قد حذّرت «حزب الله» سابقاً من الانخراط في القتال، وذلك عبر البيت الأبيض ووزارة الدفاع، وليس الاكتفاء بوزارة الخارجية، للدلالة على جدّية القرار. «ونصحت» واشنطن «حزب الله» بالتفكير مرتين.
وفي موازاة ذلك، نشرت الصحف الاميركية اتهامات حول دور ايران و»حزب الله» في التخطيط لعملية غزة. ولكن سوليفان قال إنّ ادارته لا تملك دليلاً على تدخّل ايران في التحضير لعملية غزة. وما لم يقله سوليفان عبّرت عنه وزارة الخارجية بشكل أوضح، حين أضاف الناطق باسمها عبارة «حتى الآن». وهو ما يعني بأنّه في حال توسيع دائرة الحرب فسيكون كلام آخر.
في الواقع لا تريد واشنطن «تمزيق» ما تبقّى من لبنان في أتون لهيب المواجهات الحاصلة. ذلك أنّه سيؤدي أولاً الى تشتيت التركيز الحربي حيال غزة، وثانياً الى نشر الفوضى العارمة في لبنان وسوريا، وعدم القدرة لاحقاً على اعادة انتظام الامور. ولكن الى جانب الرسالة العلنية والمرسلة الى ايران و»حزب الله»، هنالك رسالة أخرى ولكن ضمنية إلى «الجموح» الاسرائيلي. فوفق دروس التاريخ، ما حصل في حرب العام 1967 شكّل ضربة لواشنطن التي طلبت من اسرائيل عدم مهاجمة الضفة الغربية، وهي أعطت تعهداً بذلك لملك الاردن. ولضمان ذلك أرسلت سفينة التجسس «ليبرتي» الى قرب الساحل الاسرائيلي لمراقبة التحرّكات العسكرية الاسرائيلية. فما كان من سلاح الجو الاسرائيلي الاّ أن قصف وأغرق السفينة، بذريعة أنّه اعتقدها تابعة للبحرية المصرية، ومن ثم هاجم الجيش الاسرائيلي الضفة الغربية واحتلها.
واليوم تشعر اسرائيل أنّ هنالك فرصة تاريخية ذهبية لمهاجمة «حزب الله» وايران على السواء، وسط تعاطف وتأييد دولي عارم واستلامها اسلحة وذخائر متطورة وفتّاكة.
ووفق ذلك، تصبح مهمّة حاملة الطائرات والقطع البحرية المواكبة مراقبة كافة التحركات، بما فيها الاسرائيلية، لضمان عدم انزلاق الوضع الامني في جنوب لبنان. ورغم التوترات والمواجهات اليومية، الّا أنّ الجهات الدولية المراقبة تعتبرها بأنّها لم تتجاوز الخط الأحمر، على الرغم من خطورتها، رغم انّها لا تخفي قلقها من امكانية انزلاقها باتجاه المجهول. فقيادة «حزب الله» التي اشتهرت بأنّها إيديولوجية وعقائدية بقدر ما هي براغماتية وواقعية، تكاد تجد نفسها وكأنّ الظرف لم يعد يسمح لها بالجمع بين الاثنين، كما أنّ ايران تقف من دون ان تستطيع الحركة لإنقاذ أحد أعمدة الاستراتيجية التي بنتها بتأنٍ طوال العقود الماضية في غزة، وسمحت لها بالاستحواذ على بريق القضية الفلسطينية، ومن خلالها ترتيب معادلة اقليمية جعلت منها محوراً اقليمياً كبيراً يلف العالم العربي من باب المندب في الخليج الى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وهنا حساسية وخطورة المواقف والمواقع. خصوصاً اذا ما أدّت النتائج الميدانية الى السماح لواشنطن ببناء تحالف أمني وعسكري جديد يبدأ من اليابان وكوريا الجنوبية والهند ويصل الى السعودية وتركيا التي تريد أن يكون لها دور أكبر في سوريا وفلسطين، والتي قد تجد في تعقيدات حرب غزة فرصةً تمنحها موقعاً متقدّماً، تماماً كما تتمنى موسكو ان تتحول غزة الى «أوكرانيا» شرق أوسطية.