كتب جوني منير في “الجمهورية”:
المجزرة التي نفّذتها اسرائيل باستهدافها المستشفى المعمداني في غزة، فاقت كل تصور وكل درجات الإجرام. ليس فقط لأنّ المستشفى مخصّص لمعالجة المصابين والجرحى، وهو ما يعطيه حرمة وحماية انسانية تقارب القدسية، بل لأنّه أيضاً استهدف عمداً مكاناً لجأ اليه الناس والاطفال العزّل الخائفون والهاربون من جحيم القنابل، ظناً منهم انّهم يستطيعون ضمان الحماية وشيئاً من الحصانة الانسانية. لكن الوحش ألهب الحجر والبشر والاطفال العزّل، وارتكب مجزرته بدم بارد ومن دون رفة جفن.
صحيح أنّ الرئيس الاميركي جو بايدن أصرّ على الحضور إلى اسرائيل في سابقة لرئيس أميركي خلال الحرب، الّا أنّه يدرك تماماً رسالة نتنياهو والأحزاب المتطرفة المتحالفة معه من هذه المجزرة. هو يعلن ببساطة رفض الحلول والتسويات الجاري البحث فيها، والتي كانت ستُطرح بالتفصيل في قمّة عمّان التي تمّ الغاؤها، وترتكز على إنهاء التركيبة العسكرية لحركة «حماس» وإخراج ايران من الساحة الفلسطينية، وبالتوازي تحقيق مبدأ «حل الدولتين». لكن نتنياهو وحلفاءه من اليمين المتطرّف لديهم اقتناع مختلف، يقوم على اساس طرد الفلسطينيين وتحقيق «حلم» الدولة اليهودية. وهذا تحديداً ما يفسّر الاعلان بعد تنفيذ المجزرة المروعة عن قول نتنياهو خلال لقائه بوحدة النخبة في الجيش الاسرائيلي، إنّ المعركة في غزة ستجري بقوة كبيرة خلال الايام المقبلة وإنّ الامر سيتطلّب وقتاً.
ذلك أنّ بايدن الذي عمل على التحضير لانعقاد قمّة عمّان، كان يعتقد أنّ وزير خارجيته قد أبرم اتفاقاً مع نتنياهو طابعه انساني، ويمكن من خلاله التسلل لإنجاز ترتيبات التسوية التي يطمح لها. وجاء تحديد موعد الرحلة بعد اجتماع طويل تجاوزت مدته الـ 7 ساعات بين بلينكن وأعضاء المجلس الوزاري المصغّر. وتمّ التسريب عن أنّ طول مدة الاجتماع سببه انتزاع موافقة الحكومة الإسرائيلية على ممرات لدخول المساعدات الانسانية الى غزة وإنشاء مناطق آمنة للمدنيين لا يطاولها القصف، وهذا يتعارض مع طموح نتنياهو لتحقيق ترانسفير فلسطيني في اتجاه مصر، ويمهّد في الوقت نفسه لتسوية تقوم على أساس «حل الدولتين».
في الأساس، ارتكزت الرؤيا السياسية لليمين الاسرائيلي بكافة أجنحته على الرفض المطلق لتحقيق خيار الدولتين. وكان واضحاً أنّ ابرز الهجمات السياسية على نتنياهو بعد حصول «طوفان الأقصى»، بأنّه مسؤول عمّا حصل نتيجة سياسته المتسامحة تجاه «حماس»، لاعتقاده أنّ المحافظة على التوازن القائم بين السلطة الفلسطينية في الضفة وحركة «حماس» في غزة ستشكّل عائقاً أمام توحيد الفلسطينيين خلف حل «الدولتين».
لذلك وجدت الحكومة الإسرائيلية الأشد تطرّفاً في تاريخ اسرائيل في التعاطف الدولي معها إثر عملية «طوفان الأقصى» فرصةً نادرة لتحقيق هدفها بطرد الفلسطينيين من غزة وتصفية الحضور الفلسطيني، وهو ما عبّر عنه نتنياهو حين قال «إنّ وجه الشرق الأوسط سيتغيّر».
لكن كثيراً من الاسرائيليين باتوا أكثر قلقاً حيال مسار الأمور والنتائج المنتظرة.
فرئيس الوزراء السابق ايهود باراك اعتبر أنّ اسرائيل لا تستطيع محو «حماس» لأنّها إيديولوجية موجودة في أحلام الناس وقلوبهم وعقولهم. ودعا الى الاكتفاء بمهمّة القضاء على القدرات العسكرية لـ»حماس» في غزة، وهي مهمّة في حدّ ذاتها معقّدة. والواضح هنا أنّ موقف باراك أقرب الى موقف الادارة الاميركية منه إلى الحكومة الإسرائيلية.
كذلك ألمح الرئيس السابق للموساد يوسي كوهين الى امكانية فشل هذه العملية. الّا أنّ الكلام اللافت أورده المحلّل الاسرائيلي المعروف بن كسبيت، حين تحدث عن فقدان القيادة المؤهلة وانعدام الثقة بنتنياهو وحاجة اسرائيل الى «عاقل مسؤول» ليقودها إلى برّ الأمان. والنقطة الأهم التي أثارها اعتباره أنّ واشنطن استغلّت لحظة الضعف الإسرائيلية لفرض معادلات جديدة في كتاب العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية. فهي تتعامل مع اسرائيل ونتنياهو للمرّة الاولى مثلما تتعامل مع أوكرانيا وزيلينسكي، وهو ما لا يروق لكثير من الجنرالات، على حدّ قول بن كسبيت.
هذه الصورة تؤشر إلى تصميم نتنياهو على الذهاب الى الحملة البرية في اتجاه شمال غزة مهما كان الثمن، وترك التسويات السياسية للمرحلة اللاحقة. وما يزيد من هذا الاقتناع، عدم توقف الحكومة الاسرائيلية أمام موضوع الأسرى، الذي لطالما شكّل نقطة الضعف عند الاسرائيليين.
وهذا ما يعني أنّ الحرب البرية لن تتأخّر كثيراً، وهو ما يستدعي اجراء تقييم هادىء لمسار الامور على الجبهة اللبنانية.
ولا شك أنّ التهديدات المتبادلة بين ايران و»حزب الله» واسرائيل، تدخل احياناً في اطار الحرب النفسية واحياناً اخرى في اطار المراوغة والسعي لخداع الطرف الآخر والتشويش على حساباته والتهويل عليه للتأثير على قراراته. لكنها لا تخلو من الحقيقة في بعض الأحيان. وفي الوقت الذي تتمسّك واشنطن ومعها اوروبا بعدم تمدّد اللهيب الى لبنان، تبدو حسابات اسرائيل مجنونة وغامضة. فهي قد تعتقد أنّ الظرف الدولي الحالي قد لا يأتي مرّة أخرى ما يدفعها للاستفادة منه حتى النهاية.
و»حزب الله» الذي يوحي صمته بأنّه يزين الامور بميزان «الجوهرجي»، يدرك أنّ فتح ابواب الحرب لن يكون سهلاً هذه المرة. فاسرائيل تستخدم اقصى درجات القوة التدميرية من دون رادع، ولبنان لا يقوى على تحمّل خسائر كبيرة. وهذا هو ما يبقي الوضع عند الحدود في اطار التوترات لا الحرب المفتوحة. لكن ماذا لو كانت اسرائيل تسعى للتفرّغ لـ»حزب الله» عسكريًّا بعد نجاحها في الوصول الى أنفاق غزة وتصفية كوادر «حماس»؟ ولا شك أنّ هذا السؤال موجود في حسابات «حزب الله» وايران، او على الاقل هذا ما تستنتجه الوساطتان العمانية والقطرية بين واشنطن وطهران.
واسرائيل على الرغم من انشغالها بالحرب، لاحقت زيارة وزير الخارجية الايراني الى العواصم العربية والمواقف التي أطلقها. وكما نقلت أوساط ديبلوماسية غربية، أنّ اسرائيل تعتقد انّ «حزب الله» وايران يفضّلان دائماً الحفاظ على القوة العسكرية للحزب وحمايتها، في اطار موازين الردع ووفق نظرية أنّ التلويح بالقوة يمكن كسب النقاط منه ألف مرّة ، أما استخدام القوة فيحصل لمرة واحدة فقط.
ووفق ذلك، تميل التقديرات الغربية للاعتقاد أنّ «حزب الله» لن يُقدم على خطوة الحرب المفتوحة، أقله في المرحلة الراهنة، وهي تتوافق بذلك مع التقديرات الاسرائيلية. لكن ثمة ملاحظة اساسية، وهي انعدام الثقة بالتقديرات الاسرائيلية نظراً للفشل الاستخباراتي الاسرائيلي المتتالي في تقديراته، وهو ما يجعلهم يضعون احتمالات الحرب عند الحدود مع لبنان على الطاولة.
ففي العواصم الغربية معلومات عن زيارات قام بها مسؤولون كبار في «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الايراني الى العراق وسوريا ولبنان نهاية الاسبوع الماضي، حيث عقدوا اجتماعات مطولة مع قيادات الفصائل المتحالفة معهم. وهذه الزيارات التي جاءت بعد زيارة عبداللهيان، تطرّقت الى احتمال فتح جبهة جنوب لبنان ووضع خطة تتضمن رداً موحّداً في هذه الحالة.
لكن هذا لا يعني حتمية الذهاب في هذا الاتجاه، بل وضع كل الاحتمالات على الطاولة.
فلإيران حساباتها الدولية التي لا تشجّع كثيراً على توسيع دائرة الحرب في اتجاه لبنان. فروسيا التي قد ترغب بأوكرانيا جديدة في غزة، والمقصود هنا حرب استنزاف طويلة، ترفض دفع لبنان الى الحرب المفتوحة، والتي ستنتج فوضى عارمة، ما سيؤذي مصالحها الحيوية في سوريا مباشرة. وهذا الموقف ابلغته إلى طهران. وكذلك الصين متمسكة بعدم تمدّد نار الحرب، وبالتالي سقوط لبنان في مخاطر غير قابلة للإصلاح.
وكذلك ارسلت واشنطن مرّة جديدة اشاراتها المعبّرة إلى أنّها لا تملك بعد دليلاً على تورط ايران في عملية «طوفان الاقصى». كما لا بدّ من الأخذ في الاعتبار انعقاد المنتدى الثالث لمبادرة «الحزام والطريق» في بكين بمشاركة أكثر من 100 دولة وفي حضور الرئيس الروسي بوتين، في أول زيارة خارجية له الى دولة كبرى منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.
وصحيح أنّ الصين تسعى لتعزيز أوراق «الحزام والطريق» على حساب الممر الاقتصادي الاميركي الذي ينطلق من الهند وصولاً الى اسرائيل، الاّ انّ المشاريع الاقتصادية العملاقة في حاجة الى حدّ ادنى من الاستقرار الامني، وأيضا الى مستوى معقول من التفاهمات مع القوى الكبرى، والمقصود هنا الولايات المتحده الاميركية والدول الاوروبية الغنية. وهو ما يعني تقاطعاً في المصالح يمنع الانفجار الكبير لا بل يتطلّب شيئا من التنظيم.