كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
بينما تدور حرب جائرة في غزة قد تتهدد لبنان بإمتداد نيرانها، يواصل وزير الإتصالات جوني القرم معركة تلزيم قطاع البريد لتكريس فوز تحالف شركتي «ميريت إنفست ش. م. ل.» اللبنانية و Colis Priv France وذلك في جولة ثانية من المواجهات مع الهيئات الرقابية أمام مجلس الوزراء، وهذه المرة مع هيئة الشراء العام ورئيسها الدكتور جان العلية.
كان القرم قد «حشر» هذا الملف في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء الأسبوع الماضي، وخاض منازلة أولى مع ديوان المحاسبة بحضور رئيسها محمد بدران، حاول من خلالها أمام زملائه، أن يشيح النظر عن المخالفات القانونية التي وثّقها ديوان المحاسبة في قراريْه المتتاليين اللذين رفضا فيهما نتائج المزايدة. وجعل من الهم الأمني وما يتطلبه من مواكبة حكومية بإجراءات إحترازية، ذريعة إضافية لتخيير مجلس الوزراء بين «الموافقة على توقيع العقد مع التحالف» وبين التمديد لـ»ليبان بوست»، متمسكاً بكون «المتوفر حالياً قد لا نجد بديلاً عنه في المستقبل» بحجة الحرب وهروب المستثمرين… وفي كلّ الحالات يرفض قرم أن يتحمّل وحده مسؤولية أي قرار بهذا الشأن، ويصرّ على الاحتماء خلف مجلس الوزراء، مطالباً إياه باتخاذ القرار عنه، بعدما تركه بين خياريْ «السيئ والأسوأ».
بحسب المعلومات إستمع مجلس الوزراء إلى كل من القرم وبدران على التوالي. وبنى وزير الإتصالات مرافعته على عرض «الأسوأ» لحمل مجلس الوزراء على تقبّل «السيئ». وفي معرض تسويقه لنتائج الإلتزام الذي رسا على الإئتلاف، ظهّر الواردات الفورية التي سيوفّرها توقيع العقد محدداً إياها بخمسة ملايين دولار. وهو ما تبيّن أنه غير مطابق لرقم «حاصلات» البريد المحدد من ضمن موازنة العام 2024 والذي لم يتخط الـ 2.3 مليون دولار.
وقد ذكر القرم هذا الرقم بالمقارنة مع الواردات التي تتقاضاها الدولة حالياً من «ليبان بوست»، أي 40 ألف دولار. مع أن الرقم الأخير وفقاً لمصادر مواكبة للملف يكشف تخلي وزارة الإتصالات عن مسؤوليتها التي ذكّرها ديوان المحاسبة بها ضمن تقريره الأول الصادر حول قطاع البريد سنة 2021، والذي رأى وجوب إعادة النظر بمجمل واردات الدولة من هذا القطاع. الأمر الذي لم يحصل.
الوقائع القانونية
في المقابل، إنطلق ديوان المحاسبة ورئيسه القاضي محمد بدران من الوقائع القانونية والعلمية التي أبرزتها الغرفة الناظرة في الملف برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر، والتي إستندت الى دراسة شمولية للملف، بدءاً من إطلاق عملية التلزيم وصولاً الى إنعقاد الجلسة الثالثة من التلزيم وفض العرض الوحيد الذي قدم خلالها.
وبحسب مصادر معنية فإنّ مطالعة بدران أمام مجلس الوزراء، بنيت على ركيزة «المبادئ القانونية السليمة التي تضمنها القرار والتي درسها رجالات القانون بشكل دقيق»، وهي بحسب المصادر «المبادئ نفسها التي إستندت إليها هيئة الشراء العام عندما وضعت ملاحظاتها على نتائج جلسة فض العروض الأخيرة».
بالنسبة لديوان المحاسبة، فإنّ المخالفة الأساسية التي إرتكبتها وزارة الإتصالات في عملية التلزيم، هي غياب الدراسة العلمية للسوق التي تظهر الجدوى الإقتصادية والإيرادات التي يفترض أن تحققها الدولة من خلال تلزيم القطاع. وقد شكّلت هذه الثغرة وفقاً لمصادر الديوان، الأساس الذي بني عليه قرار رفض نتائج المزايدة.
وذكّرت المصادر، أنّ رفض الديوان لصفقة تفتقد لدراسة مالية علمية للسوق ليس سابقة، بل حصل ذلك خلال رفض صفقة تلزيم محطة الإستقبال «terminal 2» في مطار رفيق الحريري الدولي، وقد استجاب وزير الأشغال فوراً مع قرار الديوان.
وبيّن الديوان في المقابل أنّ غياب هذه الدراسة جرّد الصفقة من أسس قد تبرر من خلالها مخالفات أخرى إرتكبت في الصفقة، ولا سيما ما يتعلق منها بقبول العرض الوحيد خلافاً للمبادئ المحددة من قبل هيئة الشراء العام. وذلك بعدما عدّلت الجهة الشارية دفتر الشروط بما يتلاءم مع مؤهلات التحالف، وحدّدت مهل تقديم العروض بخمسة أسابيع.
مؤامرات وخصومات
ولكن إلى أي حد سيكون مجلس الوزراء مستعداً لمشاركة وزارة الإتصالات مسعاها لتخطي قرار ديوان المحاسبة، وخصوصاً بعدما وُضع الوزير بموقع خصومة شخصية مع بعض أفراد الهيئات الرقابية؟ تارة من خلال إشاعة جو من المؤامرات تخاض عبرها، وطوراً من خلال إتهامها بإزدواجية الموقف، ولا سيما مع هيئة الشراء العام، التي يصر الوزير على أن دفتر الشروط وضع بالتنسيق مع رئيسها، متجاهلاً كل الملاحظات التي وضعتها الهيئة لدى إطلاق الدفتر، والتي ذكّرت بما لم تأخذ به الوزارة في قرارها الأخير بعد فض العروض، حتى لو لم ترفض صراحة نتائج المزايدة.
هذا في وقت تعمّدت أوساط القرم إطلاق قنابل صوتية خارج جلسة مجلس الوزراء، شيّعت أنّه بصدد كشف «خلفيات خفية وراء قرار الديوان برفض الصفقة». لكنه لم يفعلها. ومضت تقول همساً إنّ رفض عرض التحالف يحقق مصلحة «غانا بوست»، شركة البريد التي كانت قد سحبت دفتر الشروط في جلستي التلزيم الثانية والثالثة ولكنها لم تتقدم بعرضها في أي منهما. ولكن كيف يمكن تأمين مصلحة الشركة الغانية اذا لم تعد مهتمة؟ لا جواب واضح.
مصادر متابعة للملف لم تعط أهمية لمثل هذه الإدعاءات، خصوصاً أنّ الإهتمام الذي أبدته «غانا بوست» بالقطاع، لم يترجم بخطوات عملية من قبل سفارتها (كما فعل المصريون مثلاً). مع التنويه إلى أنه حتى لو كانت «غانا بوست» مهتمة فعلاً، لكان الأجدى بوزارة الإتصالات أن تستثمر ذلك لتوسيع مروحة التنافس، بدلاً من رفض طلب «غانا بوست» بإطالة مهل تقديم العروض.
في المقابل رفضت مصادر مطلعة التذرّع بالحرب لتمرير هذه الصفقة. فالحرب مسألة طارئة، وهي لم تظهر كعائق إلّا راهناً بعد مرحلة من تضييع الوقت منذ إطلاق دفتر الشروط ومن ثم قبول نتائج مزايدة خالفت دفتر الشروط، ومن بعدها تعديل دفتر الشروط بما يسمح للتحالف الذي خالفه في المرة الأولى بأن يتقدم للمزايدة مرة ثانية.
هذا في وقت «تخاذلت» وزارة الإتصالات خلال كل هذه الفترة، في تطبيق توصية أساسية لمجلس الوزراء صدرت منذ شهر نيسان الماضي، إثر عرض موضوع إنتهاء العقد الموقع مع «ليبان بوست»، وتقضي بتأسيس شركة مساهمة pic يكون موضوعها تأمين الخدمات البريدية، لتُنقل إليها أصول الموجودات والعقود المحولة من شركة ليبان بوست. فيما لا يزال القرم يربط إنشاء الشركة بحاجته الى مبلغ تشغيلي بقيمة خمسة ملايين دولار، لم يسبق أن عرض على مجلس الوزراء دراسة تظهر كيفية تحديد هذا المبلغ، والنفقات التي سيغطيها.
وهذا ما يضع الوزير في موقع لا يُحسد عليه أمام الحكومة، التي صار بإمكانها أن تحاسبه على سياسة التهويل التي يلجأ إليها، بالتالي تسائله عن سبب تخلفه عن تطبيق القرارات السابقة المتعلقة بهذا القطاع.
فهل فعل ذلك ليحشر الحكومة بين خياريْ توقيع العقد مع الإئتلاف أو التمديد لـ»ليبان بوست»؟ وكيف يمكن الإطمئنان الى ما في النيّات، خصوصاً أنّ كلا الخيارين اللذين لا يجرؤ الوزير على البتّ بهما منفرداً، يتقاطعان في علاقة تربطهما مع بنك «سارادار»؟