كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
أن يتفقّد وزير الدفاع الإسرائيلي مواقع الجيش الاسرائيلي عند الحدود مع لبنان ويعلن أنّ «حزب الله» قرّر فتح الجبهة، وهو ما يعني حتمية الحرب، ثم يقوم رئيس الحكومة الإسرائيلية بجولة مماثلة في اليوم التالي ليعلن أنّه ليس متأكّداً من أنّ «حزب الله» حسم قراره بالحرب، فهذا يؤكّد في وضوح وجود تناقض في المواقف حيال الحرب على لبنان بين أرفع موقعين في الحكومة الإسرائيلية.
الواضح أنّ غالانت يعتبر أنّ «حزب الله» هو الهدف الذي يحتل الاولوية لدى اسرائيل وحتى قبل «حماس»، وأنّ الظرف الدولي الداعم لاسرائيل غير قابل للتكرار، وهو ما يستوجب اغتنام الفرصة والقيام بضربة عسكرية تجاه «حزب الله» وبيئته الحاضنة، ما يجعل حركة «حماس» في حكم الساقطة والمنتهية عملياً.
لكن واشنطن لا توافق على هذه النظرة، وتعتبرها متهورة ولا ترصد المشهد الكامل، وهي تدرك أنّ هدف اليمين الاسرائيلي تصفية الوجود الفلسطيني بذريعة القضاء على «أذرع ايران» في الشرق الاوسط، والذهاب الى دولة يهودية، وهو ما يتناقض مع الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
لذلك، رفعت الادارة الاميركية المحشورة بالواقع الانتخابي الداخلي الصعب، من درجة ضغوطها المدروسة على «الكابينت» الاسرائيلي، وزرعت ضباطاً كباراً داخل غرفة العمليات الاسرائيلية لتصويب الوضع عند الضرورة بذريعة تقديم النصح ومواكبة استخدام الأسلحة الاميركية النوعية.
ولتدعيم موقف نتنياهو المتجاوب مع الضغوط الاميركية ربما بسبب وضعه الشعبي الداخلي السيئ والحساب الثقيل الذي ينتظره بعد انتهاء الحرب، زار الرئيس الفرنسي اسرائيل بعد تنسيق كامل مع البيت الابيض بهدف استيعاب جموح غالانت والضباط الكبارالمؤيّدين له.
لكن هذا لا يلغي المخاطر على لبنان، خصوصاً في ظلّ حرب الاستنزاف المفتوحة. ذلك أنّ اليمين الاسرائيلي يراهن على أنّ الادارة الأميركية التي لا تريد توسيع دائرة المواجهة، لن تنكفئ في حال انزلقت الامور الى خارج الاطار المرسوم. وصحيح انّها وافقت اسرائيل على القيام بحملة عسكرية تضمن لها عدم تكرار مشهد «طوفان الأقصى»، لكنها متمسكة بعدم حصول سقطات أكانت عفوية أم مقصودة، تؤدي الى توسيع اطار الحرب. وقد تكون واشنطن مؤيّدة للبدء في تحريك ملف اطلاق الأسرى، كون ذلك سيخفف من غلواء الداعين للشروع في العملية البرية.
لكن الاكتفاء بالنظر الى المشهد من هذه الزاوية الضيّقة انما لا يعطي اجابة صحيحة. فنتنياهو الذي كان أعلن في وضوح أنّ وجه الشرق الأوسط سيتغيّر عند انتهاء الحرب، انما كان يتحدث عن النتائج السياسية التي تمّ وضعها لهذه الحرب. وطبعاً فإنّ ايران التي كانت تستمع إلى هذا الكلام كانت تدرك انّها ونفوذها هما المقصودان.
فمع الشروع في استكمال ما يُعرف بـ«اتفاقيات ابراهام»، رأت طهران انّ ثمة خريطة جديدة يجري رسمها وتشكّل اسرائيل عمق القوة لتحالف عسكري ـ اقتصادي ضخم. ولا بدّ من أن تكون وجدت في ذلك فرصة لإثبات قوتها الاقليمية ورؤيتها السياسية الى جانب المحور المتحالف معها، والذي يرتكز على رفض فكرة اندماج اسرائيل في نسيج دول الشرق الاوسط.
الواضح أنّ القوة النارية لـ«حماس» والمستوى القتالي والرعاية العسكرية كانت بقرار ايراني كامل وبمساعدة «حزب الله». وبعد نحو 10 ايام على عملية «طوفان الأقصى» تحدث مرشد الثورة علي خامنئي عن الحرب الدائرة في غزة، وارتفعت خلفه صور لسبعة علماء نوويين ايرانيين كان سبق لطهران أن اتهمت اسرائيل بالتورط في اغتيالهم. الرسالة كانت واضحة: إيران ردّت على اسرائيل من خلال دعمها لحركة «حماس». وبالتالي يصبح السؤال الاكثر إلحاحاً: هل ستعمد ايران الى تطبيق سياسة وحدة الساحات وان تصبح الحرب اقليمية؟
هنالك في الاوساط الديبلوماسية الغربية من يعتقد أنّ هنالك وجهتي نظر تتنازعان النقاش داخل أروقة القرار في طهران: وجهة النظر الاولى والتي يصطف خلفها العقائديون وجزء كبير من حرس الثورة، والذي يقول إنّ الوقوف موقف المتفرج على الحرب الدائرة في غزة سيؤدي لاحقاً الى تفريغ الاستراتيجية التي تتبعها ايران منذ ثمانينات القرن الماضي، من مضمونها حيال توسيع نفوذها في الشرق الاوسط. وبالتالي، صحيح أنّ التنفيذ الذي حصل لعملية «طوفان الأقصى» شهد اخطاء فادحة ادّت الى هذه النتيجة التي جيشت المجتمعات الغربية، الاّ أنّه لا يمكن التسليم بسقوط «حماس» لأنّ ذلك سيؤدي الى فقدان نقطة الجاذبية لمشروع محور المقاومة بعد انتهاء الحرب وبالتالي وجوب الذهاب الى تطبيق وحدة الجبهات الآن.
لكن وجهة النظر الثانية، وفق الأوساط الغربية نفسها، لا تتفق مع هذه القراءة، وهي تذهب الى ضرورة التعاطي بواقعية مع الحرب الدائرة وبحسابات باردة. وحسب هؤلاء، فإنّه يجب الاحتساب للمخاطر المفتوحة ووضع الحسابات الصحيحة، خصوصاً مع العودة العسكرية الأميركية وحتى الاوروبية الى المنطقة. أضف الى ذلك، التناقضات مع الدول الخليجية والتي تبقى قائمة على الرغم من الاختباء وراء الدخان المتصاعد من غزة. فهنالك احتمالات تعرّض ايران لهجوم كبير ومباشر عليها، وهو ما قد يدفع الى اعادة تحريك الساحة الداخلية التي عانت ولا تزال من حدّة الأزمة الاقتصادية. كذلك هنالك المخاطرة من ضرب نقاط قوة «حزب الله»، وبالتالي إخراجه عن دوره الاقليمي وسط اجواء لبنانية غير ملائمة على المستويين الاقتصادي والسياسي. أضف الى ذلك عدم وجود دعم على المستوى الدولي خصوصاً من جانب روسيا والصين، وهو ما أُعلن في وضوح لا لبس فيه.
ووفق الاوساط نفسها، فإنّ طهران التي تحتسب جيداً للنتائج المطلوبة حول «حماس» في غزة، ستكون ملزمة بإعادة خلط اوراقها وإعادة تحديد استراتيجية جديدة لها، وذلك من خلال اعادة تحديد سلّم الاولويات انطلاقاً من المستجدات التي طرأت.
ووفق هذه القراءة بدا أنّ القرار الايراني جنح في اتجاه الدمج ما بين وجهتي النظر وإعادة إجراء قراءة مستمرة حول احتمال ادخال تعديلات عليها. ولذلك ربما ذهبت ايران الى تحريك خطّة «وحدة الساحات» ولكن من دون رفع مستواها الى الدرجة الحامية. وهو ما ينطبق على جبهة جنوب لبنان وايضاً تحريك الجولان اضافة الى صواريخ الحوثيين. وكذلك استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق، ولكن وفق حدّ مدروس جدا. فإيران مشهورة بسياستها الواقعية والمرنة، ولكن تحت سقف إيديولوجيتها. لذلك تتطور حساباتها حسب الظروف والمعطيات المتبدلة. ولذلك تعتقد الدوائر الغربية انّ ايران لن تسعى لانخراط عسكري مباشر كون ذلك يشكّل تهديداً لاستقرارها الداخلي، وفي الوقت نفسه تريد تجنيب «حزب الله» المخاطر المفتوحة والتي تعتبره «درة التاج» من بين حلفائها الاقليميين، على أن لا يعني ذلك ترك «حماس» تشعر بالوحدة.
وفي الوقت الذي تسعى واشنطن لإقناع «الكابينت» الاسرائيلي بمخاطر الحملة البرّية، وانّها قد تكون فخاً نصبته «حماس» التي تريد استدراج الجيش الاسرائيلي الى رمال متحركة، فهي في الوقت نفسه تعمل على تعزيز حضورها العسكري تحوطاً من مفاجآت ميدانية قد تحصل.
ولأنّ المفاجآت واردة، أرسلت واشنطن حاملة طائراتها الثانية «أيزنهاور» الى المنطقة مع ألفي جندي متخصّص الى اسرائيل، وشبكة صواريخ أرض ـ جو «ثاد» الأكثر تطوراً في العالم، مع إيعاز البنتاغون بنشر مزيد من القوات في الشرق الاوسط «بهدف تعزيز الردع». وواشنطن لا تنظر للحرب الدائرة في غزة من الزاوية الشرق أوسطية فقط. فهي تحاكي الجبهات المتعددة على المستوى العالمي مثل روسيا وأوكرانيا وأيضاً الصين وكوريا الشمالية. فلا شك في أنّ خصوم واشنطن وخصوصاً كوريا الشمالية، يستخلصون العَِبر، لا بل الدروس التكتيكية، من «طوفان الاقصى» والقتال العسكري الحاصل.
لذلك بلغ مجموع الحشد الاميركي نحو 20 سفينة حربية الى جانب حاملتي الطائرات مع أكثر من 140 طائرة ونحو 20 ألف جندي من «المارينز». ويساعد الادارة الاميركية في ذلك ووفق آخر استطلاعات الرأي، أنّ 74% من الديموقراطيين و81% من الجمهوريين يؤيّدون تقديم مساعدات لاسرائيل، اضافة الى 72% من الديموقراطيين و80% من الجمهوريين يؤيّدون ضرورة حماية اسرائيل.
لكن العين الاميركية هي على استمرار استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق. ورشح من زوار واشنطن وجود معلومات حول نيّة ايران بتصعيد الهجمات على القواعد الاميركية في كل ارجاء الشرق الاوسط خلال الأيام المقبلة، بهدف إحداث ضجيج أكبر. وهذا ما دفع الادارة الاميركية الى السماح بحصول ردّ محدود اذا لزم الامر، وذلك بهدف «دوزنة « الحماوة لا فتح الجبهات. وهو ما يعني اختصاراً، أنّ التوتر الناجم عن حرب غزة لا يزال تحت السقف المقبول، ولو أنّ المفاجآت تبقى واردة في ظل ظروف مشابهة، ما يدعو الى الحذر دائماً وخصوصاً في جنوب لبنان.