كتب منير الربيع في “المدن”:
في موازاة متابعة ومراقبة النتائج والتداعيات العسكرية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما سينجم عنها، لا بد من البحث في انعكاساتها على مستوى المنطقة، عسكرياً وأمنياً، والأهم سياسياً.
كل ما يجري حتى الآن هو محاولة أميركية إسرائيلية للاستفراد بقطاع غزة. وهذا كان واضحاً في تصريحات الأميركيين والإسرائيليين. فالأميركيون ومع إرسالهم لحاملات طائراتهم ومدمراتهم البحرية، كانوا واضحين في القول إنهم يريدون ردع إيران عن التدخل، أي توفير مظلة عسكرية وسياسية لإسرائيل لتنفيذ عملياتها. أما الإسرائيليون فقد أكدوا أكثر من مرة على لسان مسؤوليهم بأنهم لا يريدون توسيع الحرب وليس من مصلحتهم ذلك. ما يعني أيضاً، أنهم يريدون تحييد حلفاء حماس عن الانخراط في الصراع.
الاستفراد بغزة
هناك عناوين كثيرة يضعها الإسرائيليون لمعركتهم، ستكون في غالبيتها صعبة التحقق، وأولها مسألة إنهاء حماس عسكرياً وسياسياً. أما الأهداف غير المعلنة، فمنها محاولة تهجير الفلسطينيين من القطاع. وهذا مشروع قديم جديد ولا يزال مستمراً، ويهدف إلى التغيير الديمغرافي، بوصفه العامل الأساسي الذي يشكل تهديداً للإسرائيليين في فلسطين. وهناك أيضاً هدف إسرائيلي آخر يتمثل بتقويض أي مقومات لفكرة “حل الدولتين”.
في التركيز على سيناريو الاستفراد بقطاع غزة، تظهر أيضاً تصريحات أميركية وإسرائيلية تشير إلى مساع لعدم توسيع العمل العسكري، وذلك تجنباً للاستفزاز وفتح الجبهات الأخرى وتوسيعها. والهدف من وراء ذلك أميركياً وإسرائيلياً هو الاستفراد بحركة حماس، وبيئتها الحاضنة، عبر القصف العنيف والغارات المكثفة، وقطع سبل الحياة، بالإضافة ربما إلى ابتداء سلسلة عمليات تصفية واغتيال بحق قياداتها وفق الآلية الإسرائيلية الثابتة والتقليدية.
يترافق ذلك مع حملات سياسية وضغوط ديبلوماسية كبيرة على إيران من جهة، وعلى لبنان من جهة أخرى، من خلال رسائل التحذير والتهديد لحزب الله لمنعه عن الانخراط في الحرب. إلى جانب بروز موجة سياسية وشعبية عامة ومركزة، غايتها الضغط على حزب الله لعدم التورط في حرب شاملة، على قاعدة أن لبنان لا يتحمل في ظل ظروفه الاقتصادية وانهياره المديد، وباعتبار أن لا أحد سيقدم أي دعم أو مساعدة للبنان في حال تدميره نتيجة الحرب.
هذا أيضاً يندرج في سياق السعي للاستفراد في غزة وإبعاد حزب الله عن المعركة.
الحزب وتجنب الحرب
هذه الحملة ستمنح الحزب مثلاً، تبريرات كثيرة لعدم الانخراط والتصعيد وفتح المعركة بشكل مباشر، من خلال “التعاطي بمسؤولية” مع ما يجري. فمثلاً في لبنان هناك غالبية لا تريد الحرب، وترفع صوتها بوضوح، ما يجعل حزب الله في حالة استعانة بمثل هذه الدعوات في ظل هذه الظروف القاسية لبنانياً، لتبرير تردده.
وهذا ينسجم في المقابل مع ما يطرحه حزب الله من خطوط حمراء كشرط لعدم الدخول في المعركة. وهذه الخطوط هي الاجتياح البري، وكسر حركة حماس، وليس فقط التوغل. بالإضافة إلى عمليات التهجير الجماعي إلى خارج غزة. وهو أمر غير مقبول عربياً. ما سيعطي دفعاً لمنع حصوله. وبذلك يبقى الحزب في مساحة آمنة جداً، بعدم دفع تكاليف كبرى، وعدم الانجرار إلى الحرب، مع حفظه لدوره في تكريس توازن القوى أو توازن الردع مع الإسرائيليين من خلال العمليات التي نفذها.
على ضفة معارضي حزب الله، هناك من سيعتبر أنه تخلف عن الانخراط في حرب غزة، لتجنب دفع تكاليف قاسية وكبيرة، فيما هناك من سيخرج ليفسّر هذا الأمر بأنه نوع من المقايضة بين عدم الانخراط مقابل الحصول على مكتسبات سياسية في لبنان للحزب، ولإيران في المنطقة.
وقائع جديدة
سيلجأ الحزب إلى استراتيجيته العسكرية المضبوطة، والتي ستمنحه دوراً أكبر في المرحلة المقبلة سياسياً وعسكرياً، وهو ما يسعى إلى مراكمته من خلال إشراك فصائل أخرى في العمليات العسكرية من الجنوب، كما هو الحال بالنسبة إلى الجماعة الإسلامية، وفصائل فلسطينية، ولاحقاً لقوى وجهات أخرى. وهذا سيكرس وقائع جديدة ما بعد انتهاء المواجهات والمعارك العسكرية، إلى ارتداد أنشطة كل هذه التنظيمات إلى الداخل اللبناني، كنوع من السعي إلى تثبيت النفوذ وتوسيع هوامشه على كل الأراضي اللبنانية، وذلك كله تحت عنوان محاربة العدو الإسرائيلي. ما سيزيد ويرفع من منسوب الشرخ الداخلي، لا سيما في ظل تنامي خطاب سياسي واضح رفضاً للإنطلاق بالعمليات العسكرية من جنوب لبنان، أو رفضاً لما يسمى “توريط” لبنان في هذه الحرب. وهذا ما سيدفع الكثيرين إلى اعتماد مبدأ الانعزال أو الانفصال أو التقسيم، وهو “تراند” كلامي مستمر منذ الانقسام الكبير حول انتخاب رئيس للجمهورية، ورفض الرضوخ لإرادة حزب الله وانتخاب مرشحه.
انحلال لبنان
الحرب على غزة، وصمت المجتمع الدولي، مقابل دعم مباشر أميركي واوروبي، يسنح في تعميم نموذج إدارة التوحش، والذي سيكون له تداعيات عالمية. وهو لا بد أن يكون له آثار على واقع المنطقة، ومن ضمنها لبنان بعد سوريا والعراق وغيرهما. وسيؤدي إلى مزيد من الفوضى على المستوى العالمي، وربما تتفشى وتتوحش أكثر في مجتمعات المشرق العربي، ولا سيما على قاعدة “والضد يظهر حسنه الضد”.
في هذا المعيار، سيكون لبنان أمام خيارين، إما انحلال الدولة وصولاً إلى الاندثار بشكل كامل، مع سيطرة على الوقائع السياسية والشعبية، والمؤسسات الرسمية، وانحلال شامل للنظام القائم، ما سيزيد من نماذج التشرذم والتجزئة. وإما أن يؤدي هذا التحلل والضعف في الدولة المركزية ومؤسساتها إلى تعميم أفكار حول نماذج جديدة من قبيل الفيدرالية أو التقسيم الواقعي تحقيقاً للفصل بين المختلفين سياسياً (و”ثقافياً” حسب بعض التوصيفات).
تجنّب ذلك يبدو طوباوياً من خلال الرهان على عجائب، تؤدي لتكوين قوى قادرة على صوغ فكرة جديدة عن مفهوم الدولة والالتفاف حولها.