كتب رمال جوني في “نداء الوطن”:
يستمرّ الجنوبيون في قراهم، على قلّة عددهم، يتحدّون الخوف الذي خلّفته المعركة على الحدود. أعداد كبيرة نزحت نحو قرى النبطية وصور وغيرها، وهناك من فضّل البقاء، على قاعدة «تعوّدنا». وحده الهدوء يصاحب تجوالك بين قرى جبل عامل، من ربّ ثلاثين مروراً بدير سريان وصولاً إلى العديسة وكفركلا. تكاد حركة الناس تختفي كلّياً لولا بعض الفلاحين المنتشرين في حقول الزيتون.
ربّما تكون دير سريان الأوفر حظاً حتّى الساعة، فحركة سكانها تكاد تكون عادية، يجلس «علي» بصحبة رفاقه في مقهى، يرتشف فنجان قهوة ويدخّن النرجيلة، لا تفارق أحاديث الشباب مجريات الساعة، كان قد توارد إلى أذهانهم خبر إسقاط مسيّرة في بلدة الشهابية، يعقّب «علي» قائلاً «لن نترك بلدتنا، قلّة غادرت، ما زال الناس في منازلهم، ما زلت أعمل في محل الحدادة، الحياة لم يغيّرها القصف، باستثناء الحذر».
تبدو دير سريان أميرة القرى الجنوبية، فتناغم البيوت الحجرية القديمة مع الحديثة، والأشجار التي تظلّل كل طرقاتها تقريباً، تجعلها مختلفة. ترفض «سكينة» مغادرة منزلها هي تعمل في حقلها، تزرع الخضار الشتوية، تسألها عن يومياتها في ظل الاعتداءات المتكررة فتجيب «عشنا حياتنا في ظل القصف، لم يتغيّر شيء علينا»، وتعقّب بالقول «لوين بدنا نترك أرضنا ورزقنا، هذه الأرض لنا لن نتخلّى عنها»، بابتسامة خجولة تقول «هنا باقون، في حرب تموز لم أغادر فهل اليوم أترك بيتي؟ لن أفعل».
تجرّع معظم أبناء القرى الحدودية كأس الاحتلال والتهجير المرّ، ذاقوا ويلاته مرّات عدة، منذ ما بعد تحرير 2000 شهدت هذه القرى نهضة إنمائية لافتة، ازدهر فيها القطاع الزراعي والسياحة. هذا الضجيج انكفأ اليوم، تحوّلت القرى حالة صمت مرعبة. في الطريق نحو العديسة جارة دير سريان، تطالعك مواقع إسرائيلية في مسكافعام قرب الحدود مباشرة، لا يوجد أحد على الطرقات، يمكن القول إن العديسة فرغت كلّياً، حتى المحال والصيدليات أقفلت، فالخوف دفع بعائلاتها الى المغادرة.
تعرّضت العديسة لأكثر من اعتداء، طال الأطراف، فهي مواجهة مباشرة لموقع مسكافعام المدني والعسكري الذي يقع خلفه ويتعرض بشكل متكرّر لعمليات «المقاومة الإسلامية»، هذه الاعتداءات لم تدفع بمحمد رمّال لإقفال استراحته، بل يؤكد أنه باقٍ في عمله. عند الرصيف المحاذي للحدود يجلس بصحبة صديقه، يتناولان الفطور، لا يبعد الموقع عنهما سوى بضعة أمتار فقط، ومع ذلك يقول «لا نخاف، هذه أرضنا، وسنبقى فيها». ويؤكد أن حركة الناس خفيفة، بل معدومة، ولكنه يرى أنه بفتح استراحته يؤكد صموده في أرضه.
على طول الجدار الفاصل مع فلسطين المحتلة، باتجاه كفركلا، وحدها دوريات قوات الطوارئ الدولية والجيش اللبناني، تخرق الهدوء، فكفركلا نالت نصيبها من القصف، أكثر من مرة تعرّضت أطرافها للقصف الإسرائيلي، ما دفع بأهلها للمغادرة، معظم دكاكينها مغلقة تقريباً، ومع ذلك يواصل «علي» عمله في الميكانيك، لم يقفل محله يوماً، «ما في شي» يقول، بل يذهب إلى حدّ وصف ما يحصل بلعبة الـ «بوب. جي» المسلّية، «فحين يبدأ القصف نصوّره ونحن ندخّن النرجيلة».
يتّكئ «علي» على المقاومة «فهي ثقتنا»، وبرأيه الإسرائيلي «لا يجرؤ على قصف البلدة، فمعادلة الردع ما زالت قائمة»، لا يخفي أنّ معظم مقومات الحياة لم تعد متوافرة داخل البلدة، غير أنه يشير إلى «أنّ القرى كلها مفتوحة بعضها على بعضها، ونشتري كل حاجياتنا الضرورية منها».
أعادت الحرب هذه القرى بالذاكرة إلى ما قبل التحرير، حينها كان أبناء كفركلا خارجها، وممنوع زيارتها إلا بإذن مسبق، غير أن ما يجري اليوم لا يعدو كونه «مناوشات» مع قصف متقطع، تقول محسنة فارس وقد عادت وفتحت مخبزها قبل ثلاثة أيام، «لأنّ الحياة يجب أن تستمرّ»، خفّضت عجينها من 150 رغيفاً إلى 30 فقط وتعيد السبب إلى أن حركة الناس خفيفة جداً، كل المحال مغلقة، ومع ذلك ترفض أن تقفل «أفتح كل يوم حتى الواحدة ظهراً، فعادة يبدأ القصف بعد الظهر وفي الليل».
يختلف نهار كفركلا عن ليلها، فالخوف يبدأ مع بداية القصف، ومع ذلك اعتاد من بقي على المشهد، يرفض مغادرة البلدة، «لأن من يترك منزله يذلّ»، وهو ما يرفضه الكل.
تحوّلت يوميات الناس في قرى خطوط التماس إلى خضّات متلاحقة، تنتهي مع انتهاء القصف، والخوف أن يطول الأمر أكثر، فالناس قد لا تحتمل النزوح في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.