كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
ما بين أروقة مجلس الأمن الدولي حيث تُعقد الاجتماعات المفتوحة المخصّصة للحرب في غزة، والمفاوضات السرّية الجارية في بعض العواصم، تراقب المراجع الديبلوماسية مجموعة من «المبادرات الصغيرة» التي يمكن ان تقود الى «تفاهمات محدودة» تقود الى استبدال مجموعات من الأسرى بالمساعدات. في وقت ما زالت فيه واشنطن تستبعد اي اتفاق شامل لوقف النار، طالما انّه لمصلحة «حماس»، تزامناً مع حملتين عسكرية وديبلوماسية لتعزيز قواتها في المنطقة. وعليه ما هو المتوقع مما يجري؟
لا يمكن للمراجع الديبلوماسية العليمة ان تنفي ما يجري في الكواليس الدولية والاقليمية من مشاريع مبادرات صغيرة، سعياً الى تفاهمات محدودة يمكن ان تؤدي الى عمليات تبادل الأسرى لدى «حماس» و»الجهاد الاسلامي»، وخصوصاً ما بين حاملي الجنسيتين الاسرائيلية وأخرى من دول مختلفة شرقية وغربية، لقاء السماح بإدخال المزيد من المساعدات الانسانية والطبية الى القطاع المحاصر. وهي مبادرات ما زالت قائمة حتى الساعة في ظلّ ما هو معلن من مساعٍ تُبذل توصلاً الى وقف شامل لإطلاق النار، ما زالت الطريق المؤدية إليه مقفلة على اكثر من خط. فقد قطعت الولايات المتحدة الاميركية الطريق على كل مشاريع المبادرات الكبرى التي نوقشت في مجلس الأمن الدولي نتيجة استخدامها لحق الفيتو لمجموعة الاقتراحات، ولا سيما البرازيلية – التي كانت الأولى من نوعها، بحكم رئاستها الدورية لمجلس الأمن الدولي – قبل إسقاط مجموعة المشاريع الصينية والروسية المقترحة، لمجرد إصرارها على الدعوة الى وقف للنار ورفض إدانة حركة «حماس» بطريقة واضحة وصريحة، ومحاسبتها على ما انتهت إليه عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الجاري.
وإلى مجموعة المبادرات المستمرة، لا تتجاهل المراجع عينها، ما سبق هذه الاقتراحات من مبادرات عربية وخليجية التي تمّ وأد بعضها في مهدها، كتلك التي استبقتها إسرائيل بمجزرة «مستشفى المعمداني» التي أدّت إلى تعطيل القمة الرباعية التي كانت تستضيفها العاصمة الاردنية في اليوم التالي لها، حيث كان مقرراً ان يستضيف العاهل الاردني الملك عبدالله كلاً من الرؤساء الاميركي جو بايدن والمصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني محمود عباس. كان ذلك قبل ان تفشل «قمّة القاهرة للسلام» ايضاً في ترتيب وقف للنار لأيام عدة في «مبادرة انسانية» لا اكثر ولا اقل. فالداعي إليها كان يعرف انّ الأجواء الدولية غير مؤاتية لأكثر من هذا المطلب المتواضع، نتيجة معرفته المسبقة باستحالة الحديث عن وقف شامل لإطلاق النار قبل ان تتوفر له ظروفه على وقع الدعم الدولي الأعمى الاجراءات الاسرائيلية، وعلى الرغم ما ادّت اليه من جرائم ضدّ الانسانية وخرق لكل المواثيق والمعاهدات الدولية.
وقبل هذه المحطات التي شهدتها المنطقة، كانت هناك مبادرة عربية – خليجية نُسبت عناوينها الى سعي قطري – أردني مشترك تظلّله مباركة مصرية وسعودية وجزائرية وتركية، كانت مدار بحث على هامش مؤتمر «منظمة التعاون الإسلامي» الذي عُقد في جدة في المملكة العربية السعودية، تتحدث عن وقف للنار يمتد لثلاثة أشهر، تسمح بتنفيذ سلسلة من برامج الإغاثة التي يمكن ان تدخل غزة بإشراف دولي – عربي، وتشكيل قوة فصل من دول عربية واسلامية تواكب انكفاء «حماس» وجهازها العسكري لصالح أحياء السلطة الفلسطينية في غزة. على ان تتزامن هذه الإجراءات إن تمّت في أجواء من التهدئة، مع عملية تبادل شاملة للأسرى من مختلف الجنسيات لدى «حماس» و»الجهاد الاسلامي» والمنظمات الفلسطينية الحليفة، مقابل «تصفير» السجون الاسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين مع إخلاء غزة من قيادات «حماس» طوعاً، الى حيث يشاؤون من الدول العربية والاسلامية، بعدما أبدت كل من تركيا وقطر ودول اخرى عن استعدادها لاستضافتهم في أفضل الظروف الممكنة.
وإن عاد المراقبون الديبلوماسيون إلى تلك الفترة، فهم يدركون انّ مثل هذه الصيغة لم تكن مقبولة لدى اي من الطرفين، ولا سيما الحكومة الاسرائيلية التي كانت تعاني من الصدمة التي أحدثتها عملية «طوفان الاقصى»، فيما يسعى رئيس حكومتها الى تشكيل مجلس الحرب لتقاسم المسؤولية بين الحكومة ومعارضيها، كما بالنسبة الى قيادة «حماس» التي «ذُهلت» مما هو مطروح من صيغ تُنهي وجودها في قطاع غزة. وعليه، بقيت هذه النقاط «المترابطة» على شكل حل شامل، مجرد سلة أفكار وُصفت بأنّها من انتاج «عقل سوريالي»، بعدما سبقتها التطورات الميدانية والعسكرية في القطاع، وأنهت البحث في اي بند منها. فالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ومعظم دول الغرب، كانت قد قالت كلمتها إلى جانب اسرائيل، لإنقاذها مما هي فيه، وفتحت الجسور الجوية لتعزيز قدراتها العسكرية تزامناً مع دخول حاملات الطائرات والسفن الحربية الى المتوسط والتعزيزات التي شهدتها القواعد الاميركية في الخليج والعراق وسوريا بمختلف أنواع الطائرات وجنود المارينز.
على هذه الخلفيات، وفي محاولة يائسة لتجاوز مجموعة المطبات التي تحول دون وقف العمليات العسكرية، برزت المحاولات لترتيب تفاهمات صغيرة ومحدودة لتبادل الأسرى، وقد برزت أولى العمليات التي أفرجت فيها «حماس» عن سيدتين اسرائيليتين معمّرتين وسيدة اميركية وابنتها، بدأت بعض العواصم تفكر بصفقات مماثلة. ولعلّ أبرز المحاولات التي جرت أن سعت روسيا الى الإفراج عن 11 محتجزة ومحتجزاً يحملون الجنسية الروسية إلى جانب الإسرائيلية منها، فاستضافت موسكو وفدين قياديين من «حماس» و»الجهاد الاسلامي» ومسؤولين ايرانيين لترتيب هذه العملية من دون تنتهي الى ما أرادته. فقد ساءت العلاقة سريعاً بين تل أبيب وموسكو على خلفية عدائهما نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا ووقوف تل أبيب الى جانب كييف، إلى درجة أنهت المشروع الروسي قبل الكشف عنه.
وإن عبّرت المراجع الديبلوماسية عن قلقها في ظل فقدان الوسيط الدولي النزيه الذي يمكنه ان يتوسط أطراف الصراع، اتجهت الانظار الى الحراك الديبلوماسي الجاري في أكثر من عاصمة. وأشارت المعلومات القليلة الواردة من بكين والدوحة ومسقط، عن بوادر مبادرة جديدة أسست لها قطر وسلطنة عمان، لاستدراج الوسيط الصيني، على الرغم من فشل المحاولات السابقة. وهو ما جعلها في مرمى الحراك الديبلوماسي الذي ستقوده في الايام المقبلة مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف التي ستصل الى المنطقة في جولة واسعة، للتأكيد على أهمية مواصلة الجهود التي بذلها من قبلها الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن لحصر الصراع في غزة ومنع انفجار المنطقة، من دون ان تعدّل موقفها المؤيّد لما تقوم به اسرائيل.
وعليه، فإنّ هؤلاء المراقبين ينتظرون وصول ليف للتثبت من وجود نية اميركية بعدم الربط بين ما يجري في غزة على ساحل المتوسط وما يجري في محيط القواعد الاميركية في سوريا والعراق. ذلك انّ اي ربط بين الساحتين الصغيرة في غزة والكبرى في المنطقة، يُعدّ مؤشراً إلى نية واشنطن باتجاه توسيع مسرح العمليات العسكرية او العكس. ففي حال وجود السيناريو الاول يعني انّ جميع المبادرات الصغيرة والمتواضعة باتت في مهبّ الريح، ليفتح الأفق على سيناريوهات مذهلة أكثر خطورة، وانّ الحسم بين النظريتين يحتاج الى ايام قليلة بانتظار «الصفقة الكبرى».