كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يبدي البعض قلقاً من أن يكون لبنان قيد الانزلاق نحو الحرب. ويخشى هؤلاء أن تكون إطلالة الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله ، وهي الأولى له منذ عملية «طوفان الأقصى»، هي الإعلان الرسمي عن انخراط «الحزب» في الحرب الدائرة في غزة. فهل لهذه المخاوف مبرِّرات واقعية؟
منذ اندلاع المواجهات في غزة، ظهرت تحليلات كثيرة لموقف «حزب الله». لكن بعض الإعلام الغربي درج على إشاعة الاستنتاج الآتي: إذا احتاجت إيران إلى تدخُّل حليفها في لبنان، من أجل إنقاذ «حماس» في غزة، فإنّ «الحزب» سيستجيب حتماً للطلب، باعتباره جزءاً من المنظومة العملانية التي تقودها طهران في الشرق الأوسط.
وهذه الفرضية منطقية في المطلق. فطهران لن تسمح لإسرائيل بالاستفراد بحليفها الفلسطيني القوي وإضعافه أو خنقه، أياً كانت الظروف. وهي بالتأكيد ستستعين بـ«الحزب» إذا شعرت بالحاجة إلى تدخّله. وهذا الموقف لا يحتاج إلى إثبات.
وقيام «حزب الله» بتسخين خط التماس على جبهة إسرائيل الشمالية، منذ 7 تشرين الأول، يخدم هذا الهدف: إفهام الإسرائيليين بأنّ «حماس» ليست وحدها في المعركة، وأنّ استفرادها يعني فتح أبواب جهنم على إسرائيل شمالاً وجنوباً، وعلى الأرجح في الداخل أيضاً، وفتح أبواب جهنم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وهذا العامل يأخذه الإسرائيليون والغربيون بعين الاعتبار وبمنتهى الجدّية. وهو السبب الأساسي في إرباك بنيامين نتنياهو والجيش الإسرائيلي، وتجنّب المباشرة في معركة الحسم الموعودة.
وصحيح أنّ إسرائيل قادرة في لبنان على ارتكاب عمليات تدمير فظيعة، بالطيران، لمختلف مرافقه الحيوية، ما يجعله عاجزاً عن العودة إلى الحياة قبل سنوات عديدة. لكن الصحيح أيضاً هو أنّ على إسرائيل نفسها أن تتوقع حينذاك ضربات مصدرها لبنان قد تفوق بحجمها عملية 7 تشرين الأول، فيما سيحصد الغرب نتائج موجات غير مسبوقة من الإرهاب، في التوقيت الأسوأ، أي فيما حكوماته كلها منغمسة في حرب أوكرانيا.
وللإيضاح، إنّ إيران نفسها لا ترغب في فتح أبواب الجنون الإسرائيلي مع لبنان، لأنّها أيضاً لا تريد مقابل إنقاذ «حماس» إحراق بلد يمسك فيه «حزب الله» بزمام الأمور.
إذاً، الجميع يدركون أنّ اللعب بالنار في غزة سيستتبع حرائق لا يريدونها، سواء في الداخل الإسرائيلي أو على حدود لبنان أو في داخله، أو أينما كان في الغرب. ولذلك، هم يتهيبون المغامرة. ويضطلع الأميركيون والأوروبيون بدور الإطفائي في هذه المسألة، على رغم ما يبدونه من تضامن مُبالَغ فيه مع إسرائيل.
والأهم هو أنّ الوساطات وخطوط الاتصال مفتوحة، على رغم العنف الذي تشهده غزة. وقد أتيح للجيش الإسرائيلي أن ينفّذ عمليات قاسية أصابت المدنيين في القطاع، لعلها ترضي غرور العقل العسكري هناك، بعد ضربة 7 تشرين التي أصابته بالضياع. لكن الجميع يعرف أنّ أفق هذه العمليات سيبقى مسدوداً، وأنّ لا مجال لتنفيذ إسرائيل خطّة الأرض المحروقة في غزة.
بناءً على هذه المعطيات، يتصرّف «حزب الله». فهو يصعّد سياسياً وإعلامياً ويلوِّح بإشعال الجبهة ميدانياً، لكنه يعرف أنّ الحرب الكبرى لن تقع، لأنّها ليست في مصلحة أحد. بل إنّ رفع السقف السياسي والإعلامي والتهديد بإشعال النار على مداها يندرجان ضمن تكتيك يهدف إلى الاستعاضة عن الحرب الكبرى.
وعلى الأرجح، سيندرج خطاب نصرالله، الجمعة المقبل في هذا السياق. ويُفترض أن تكون رسائله موجّهة إلى الداخل كما إلى إسرائيل والغرب والعرب، ومفادها: ملتزمون جانب الانضباط النسبي، لكننا لن نسكت على الاستفراد بـ»حماس». فلا تجربونا، لأننا جدّيون في الدفاع عنها، مهما كلّف الأمر.
ومن السذاجة الحديث عن تباين أو اختلاف في المصالح بين إيران و»حماس»، أو بين إيران و»الحزب»، أو بين «الحزب» و«حماس». فطهران وحلفاؤها يتحركون وفق خطة عمل واحدة موحّدة على امتداد رقعة الشرق الأوسط، وعلى قاعدة التعاون والتنسيق والتكامل. ولا يمكن لأي طرف أن يغرّد وحيداً وخارج هذا المحور. وخسارة أي طرف هي خسارة للمحور بكامله. ولذلك، يصعب استفراد «حماس» كما يصعب استفراد «الحزب». وطهران نفسها هي الضامن لهذا التعاون بين حلفائها.
لذلك، في المبدأ، ليس منتظراً أن يعلن نصرالله حرباً مفتوحة على إسرائيل. ولكن، على الأرجح، سيلوّح بشكل واضح: الخطأ تجاه «حماس» في غزة سيدفعنا إلى التدخّل، ولن نكترث للعواقب.
وربما هذا هو السبب الذي يدفع الوسطاء الغربيين إلى الاستنفار في لبنان: مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف تصل اليوم إلى بيروت، ضمن جولة شرق أوسطية. وتزامناً سيصل وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو بعد وزيرة الخارجية كاترين كولونا.
المبادرة هي اليوم في يد إسرائيل: هل تعتمد مقولة «عليَّ وعلى أعدائي» في غزة، فتكون النتائج شبيهة بالانتحار في الشرق الأوسط والغرب، أم تبحث عن طريق لتحقيق الأهداف السياسية بأقل مقدار من الخسائر؟
بعض الخبراء يقولون إنّ اللاعبين يملأون الوقت بتبادل الرسائل الساخنة، السياسية والأعلامية والعسكرية، لئلا يدخلوا في الجنون الجماعي.