كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
أشعل «طوفان الأقصى» العالمين العربي والإسلامي من شواطئ الأطلسي حتى آخر الجزر الإندونيسية، كما حرّك مشاعر المناصرين للقضية الفلسطينية والمتعاطفين إنسانيّاً مع سكّان غزّة في المجتمعات الغربية. أمّا في لبنان، فأيقظ فجر «الإنزال الحمساوي» على غلاف غزّة في السابع من تشرين الأول، أهل السنّة وحماسة بعض الجماعات والتنظيمات السنيّة الدينيّة كـ»الجماعة الإسلامية»، من جهة، والعروبية واليسارية أو ما يعرف بالأحزاب والقوى الناصرية، من جهة أخرى، بعد اضمحلال حضورها السياسي والميداني مع انتقال «المقاومة» وغرفة عملياتها من «الحركة الوطنيّة» إلى محور «الممانعة» بقيادة إيران، التي عزّزت بدورها إلى جانب النكبات الناتجة من الصراع العربي – الإسرائيلي وعوامل ذاتية ومحلية أخرى، الإحباط السنّي، في ظلّ توسّع نفوذ طهران داخل خرائطهم في أربع عواصم على الأقلّ وصولاً إلى مركز القضية في فلسطين.
ومع اعتزال «تيّار المستقبل» الحياة السياسية، تسلّل الشغور إلى الساحة السنيّة التي انتقلت من نفوذ «القطب الواحد»، إلى تعدّدية مُتفرّقة لم تستطع ردم الصدع الكبير الذي تركه انسحاب الحريريّ. فهل تُشكّل الجبهة الجنوبية نافذة لعودة هذه التنظيمات والمجموعات إلى الواجهة السياسية والميدانية تحت راية فلسطين وحدها؟ أم أنّ طريق القدس يمرّ حكماً من بوابة الجنوب التي يتحكّم «حزب الله» بمفاتيحها، ويبحث بدوره عن راية إسلامية سنيّة حاضنة؟ وهل ترمّم الحرب على غزّة صورة إيران في العالم العربي فيُعيد رفع صور الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصرالله على جدرانه بعدما سقطت في السّنوات الأخيرة مع صعود الخلاف السنّي – الشيعي إلى السّطح عقب أحداث 7 أيار 2008؟ يكتنف السّاحة السنيّة تنوّع سياسيّ وعقائديّ غير متوافر لدى المجموعات اللبنانية الأخرى، فهي لعبت أدواراً مفصلية في تاريخ لبنان السياسي المعاصر قبل الطائف وبعده. ولطالما شكّلت الطائفة السنيّة رافعة أساسية يُركن إليها في المشاريع الكبيرة، أكانت نصيرة القضية اللبنانية وأولويتها على كلّ القضايا، أو الإرتماء في المحيط الأوسع حتّى لو عاكست أمواجه المصلحة اللبنانية الخالصة. ناصر السنّة الزعيم العربي جمال عبد الناصر، ثمّ منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها في لبنان التي اعتبروها «جيش المسلمين». ثمّ أخذتهم التجارب إلى «لبنان أولاً» وترجمته في انتفاضة الإستقلال (2005) بملاقاتهم القوى المسيحية على رأسها بطريركهم التاريخي مار نصرالله بطرس صفير، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط والقوى الشيعية المنتمية إلى الخطّ السيادي. ومع وقوع معارك مخيّم نهر البارد (2007) بين الجيش اللبناني وتنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي، ساهم الموقف السنّي الحازم والصادر عن دار الإفتاء و»تيار المستقبل» في حسم المعركة لصالح الجيش، حيث أعرب العديد من أهالي العسكريين والشباب في عكّار «خزّان» المؤسسة العسكرية، عن رغبتهم في مساعدة الجيش ومساندته ميدانيّاً. أمّا اليوم ومع عملية «طوفان الأقصى» وانتظار ما سيتمخّض عنها من سيناريوات وتصوّرات تتأرجح بين المعتقدين أنّ المنطقة تكتب تاريخها الجديد وتغيير خرائطها من ناحية، والقائلين إنها معركة في حربٍ طويلة طالما أنّ المسألة الفلسطينية لم تُحل، من ناحية أخرى. ريثما يتضح هذا المشهد الكبير، كيف تتفاعل القوى السنية مع هذه الأحداث المفصلية وتُوازن بين المصلحة الوطنية وأحقية الدفاع عن قضيتهم المركزية؟
«الجماعة» فتحت الطريق
شكّل دخول «قوات الفجر» الجناح العسكري لـ»الجماعة الإسلامية» في لبنان، الميدان الجنوبي في 18 تشرين الأول، خطوة لافتة، رافقتها تساؤلات كثيرة عن فعاليتها وانعكاساتها المحلية. وتجدر الإشارة إلى أنها جزء من منظومة «حركة الإخوان المسلمين» العالمية. تُمثّل الجماعة شريحة واسعة من اللبنانيين السنّة، ولها حضور وازن في مناطق وقرى العرقوب. ويعود تنظيم نشاطها العسكري إلى عام 1982 عقب الإجتياح الإسرائيلي للبنان.
وفي المناوشات الحدودية الأخيرة، أطلقت صواريخها من منطقة مزارع شبعا، وهذا ما شدّد عليه النائب عماد الحوت، الذي أعلن في أكثر من مناسبة وكتب عبر صفحته الرسمية (إكس)، أنّ «الأرض التي تحركنا فيها عسكرياً (مزارع شبعا) هي بيئة حاضنة للمقاومة، ونحن أبناء هذه الأرض». وأشار في سلسلة تغريدات إلى أنّ «لبنان بالنسبة لنا وطن وليس ساحة؛ ونحن لسنا جزءاً من أي محور، ولن نكون». وأضاف «أننا لسنا مسؤولين عن موقف «حزب الله» من عملياتنا، بل نحن مسؤولون عن عملياتنا التي هي رسالة واحدة لاسرائيل».
ماذا عن القوى الأخرى؟
من جهتها، أشارت الأحزاب والقوى الناصرية اللبنانية («حزب الاتحاد»، «التنظيم الشعبي الناصري»، «الاتحاد الاشتراكي»، «حركة الناصريين المستقلين – المرابطون»، و»المؤتمر الشعبي اللبناني»)، في لقائهم الأخير «إلى أنّ ما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023 في غزة يمثل تباشير النصر المؤكد على الاحتلال، وهو تعبير عن أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة». واتفقوا «على متابعة اللقاءات والعمل على توفير ما أمكن من مقوّمات الصمود لشعبنا وتعزيز الوحدة الوطنية بين اللبنانيين كافة». حتى اللحظة لم تُعلن هذه الأحزاب مشاركتها الميدانية، غير أنّ الأمين العام لـ»حزب الإتحاد» النائب حسن مراد، قال في حديث لـ»نداء الوطن»: «نحن موجودون في كل الميادين، وعلى جهوزية واستعداد تامّين عندما تدعو الحاجة». واعتبر أنّ «القضية الفلسطينية وما يدور من معارك طاحنة في غزّة قد وحّدت الشعوب الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من أجل مناصرة المقاومة في وجه العدو الصهيوني، وأن طريق القدس باتت أقرب من أي وقت مضى، قاطعة الطريق على كلّ من يريد اللعب على وتر الصراع السنّي – الشيعي».
أما رئيس «حزب التيار العربي» شاكر البرجاوي، فأبدى «استعداده للمشاركة ضدّ أي عدوان خارجي على لبنان، فنحن معنيون كأي لبناني آخر». وكشف «أننا أحيينا مكتبنا العسكري بشكل موقّت تحسّباً لأي تطورات مفاجئة، ينتهي مع انتهاء الحدث». ولفت إلى أنّ التنسيق سيكون مع غرفة عمليات المقاومة («حزب الله»)، «الجيش أكيد مش رح ينسّق معنا». ورأى أنّ الواقع السنّي مأزوم اليوم، خصوصاً بعد الإحباط بسبب سياسات «تيار المستقبل» وشرذمتهم، فأتت عملية غزّة لتبثّ في عروق ووجدان أهل السنّة في لبنان شعوراً بالانتصار والنشوة». بالعودة إلى لبنان، أكد البرجاوي «أننا لا نريد الحرب وأنّ الظروف الإقليمية والدولية والتصريحات الأميركية والإيرانية تشير إلى أن إشعال المنطقة غير ناضج. فلا مصلحة لأحد في أن تفتح كل الجبهات»، وتوقّع أن «تبقى المناوشات عند الحدود الجنوبية ضمن قواعد الإشتباك».
الإعتدال السنّي
أما على جبهة النخب السنيّة، فرأى وزير التربية والتعليم العالي الأسبق والرئيس السابق للجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، حسن منيمنة أنّ «الموضوع الفلسطيني أكبر من الحسابات السياسية الداخلية، وأنّ اللبنانيين على مختلف طوائفهم ومشاربهم قد دعموا القضية الفلسطينية، وقّدموا كل الإحتضان والدعم للشعب الفلسطيني الذي هُجّر من أرضه ولجأ إلى لبنان عقب نشأة الكيان الصهيوني. ولا ننسى أنّ الأديرة والكنائس والبطريركيات على تنوّعها، قد احتضنت الفلسطينيين وقدّمت بعض الأراضي لإقامة مخيمات عليها».
وأضاف: «لكن مسببات ومجريات الحرب الأهلية اللبنانية والتدخل الفلسطيني آنذاك، قد أدت إلى هذا الإنقسام والنظرة إلى الموضوع الفلسطيني، من دون أن يؤثّر في التعاطف السياسي الإنساني، خصوصاً عند المسيحيين. وقد عبّرت كل المرجعيات الروحية والسياسية عن دعمها للقضية الفلسطينية ودانت بشكل واضح الجرائم التي يرتكبها الإحتلال الإسرائيلي في غزّة».
وعن التنظيمات السنيّة التي شاركت في القتال المحدود عند الحدود الجنوبية كـ»قوات الفجر»، اعتبر أنه رغم محدوديتها وفعاليتها الميدانية والعسكرية مقارنة بـ»حزب الله»، هي للقول إن مواجهة إسرائيل، هي حقّ لكلّ الناس الذين يدعمون القضية الفلسطينية. في المقابل، أكّد منيمنة أنه «لا مصلحة للبنان، كما للفلسطينيين بأن تُؤخذ الجبهة الجنوبية نحو الحرب. وأن لا يتمّ توريط البلد والمحافظة على قواعد الإشتباك وإشغال العدو الإسرائيلي». أمّا عن المزاج أو التعاطف السنّي و»دوزنة» العلاقة بين المصلحة الوطنية والقضية الفلسطينية، فلفت منيمنة الى أنّ «السنّة عامة ومرجعياتهم يميّزون بين الوضع الفلسطيني وكل ما يتعلّق بمواجهة العدوّ الإسرائيلي، من جهة، والملف اللبناني وحماية سيادته وتركيبته، من جهة أخرى. فالسنّة حريصون على لبنان وعدم زجّه في حروب أكبر من طاقته، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الإقتصادية الصعبة وغياب أي دور فاعل للدولة اللبنانية في تقرير مصيرها». وختم منيمنة إنّ «تسوية العلاقات بين اللبنانيين، وإذا كنّا نتكلّم عن السنّة والشيعة، تكون بعودة «حزب الله» إلى كنف الدولة ضمن استراتيجية دفاعية. فالقضية الفلسطينية وحدها لا تكفي». واستبعد «أن تتمكّن أي من الجماعات السنيّة الحالية وتحت أي شعار أن تملأ الفراغ الذي أحدثه غياب «تيار المستقبل».