كتبت نوال نصر في “الجمهورية”:
راهن كثيرون في بصرما الكورانية على أن الشجرة لا تقع من أوّل ضربة فأس، وواجهوا «معركة الزيتون» في بلدتهم بتلاوة الأبانا والسلام. صلّوا كثيراً. الصلاة نور. إنها سلاح عظيم كما قال القديس يوحنا ذهبي الفم. هي قويّة للغاية. صلّوا لتزول الحروب ويحلّ السلام وتعمر البيوت و»الزيت عمود البيت». أتى أيلول ولحقه تشرين وفي تشرين ينضج الزيتون والزيت. لكن، في بصرما اليوم نضج مشروع آخر يقضي باقتلاع 3500 شجرة زيتون ضمن أملاك دير سيدة النجاة وإنشاء مدينة صناعية مكانها. في بصرما اليوم انطلق المشروع الذي يعترض عليه سكان البلدة. إنطلق غصباً عنهم بعقد موقع بين رئيس الدير السابق الأب باخوس طنوس ومؤسسة work smart association لصاحبها طوني سليمان فرنجية. فهل الزيت ضاع في العجين؟
الإتفاق عقد قبل ستة أعوام، وتحديداً في العام 2017. والأعمال انطلقت قبل أشهر. يومها سألنا طوني فرنجية عنها فقال: «نحن لا ولن نقطع أي شجرة زيتون بل أبلغنا الآباء عن استعدادنا، على نفقتنا، لنقل أشجار الزيتون الى بقعة أخرى لتعيش في أرض جديدة لكن، ما حصل أنّ هناك من تعامل بقسوة مع الشجر واقتطع أشجاراً ولسنا نحن من فعل ذلك».
جمعية work smart association يومها أوقفت العمل وفي أواخر تشرين الأول عادت ووضعت إشارات تنذر بأن أوان بدء تغيير طبيعة تصنيف الأرض من زراعية الى صناعية قد آن. الإتفاق ينصّ على إنشاء منطقة صناعية «نموذجية» في الأرض التي كانت مصنّفة زراعية. هو مشروع هدفه، بحسب الجمعية، تشجيع صغار المستثمرين وفتح آفاق أمام الشباب طالبي العمل. من حيث الشكل، المشروع جيّد لكن، هل هو كذلك في الواقع؟ في بصرما كثير من الوجع لأن المشروع الهادف شكلاً يقضي واقعياً على ثروةٍ بيئية وعلى أشجار معمّرة مباركة زرعها آباء، جذورها في الأرض وجذوعها تمتدّ الى السماء.
فماذا في جديد زيتون دير سيدة النجاة في بصرما؟
منذ أقل من أسبوع، أتت الجمعية ووضعت إشارات بلون أزرق على الأرض. ثمة عمّال بدأوا إعداد الأرض لتحويلها من زراعية الى صناعية. وعادت «معركة الزيتون» الى الواجهة من جديد. نسأل السكان في الجوار، الذين اعتادوا زيارة أرض الدير المباركة بزيتون الأجداد، عن جديد تشرين فيجيبون بقهر: «أشجار عمرها أكثر من مئتي عام نقلت من مكانها فيبست ويذهبون بنا الى مكان سُتف بحطب يابس للبيع. الأشجار المعمّرة معروضة اليوم حطباً للبيع. والأرض التي دفن فيها أكثر من خمسين راهباً ستزنّر بمنطقة صناعية. الدير المقاوم الذي تجاوز عمره المئة وخمسين عاماً فقد هدوءه. نقرأ العقد الموقّع بين دير سيدة النجاة- بصرما التابع للرهبانية اللبنانية المارونية الممثل اليوم بشخص رئيسه الأب طوني حدشيتي والجمعية الحائزة علماً وخبراً رقمه 532 تاريخ 15 آذار 2017 الممثلة في هذا العقد بشخص النائب طوني سليمان فرنجية ونقرأ في مقدمته: لما كان الفريق الأول يملك كامل العقارين رقم 1 و43 من منطقة بصرما العقارية وهما عبارة عن أرض «سليخ» لا بناء عليهما ولما كان الفريق الثاني جمعية خيرية لا تبغي الربح، ومن أبرز غاياتها وأهدافها المساعدة في مجال توفير فرص العمل للشباب ودعم المشاريع الاقتصادية وتطويرها وتأمين مستلزماتها تقدم عارضاً إستئجار قسم من أرض العقار 1 وكامل العقار رقم 43 بغية تشييد أبنية صناعية من أجل استثمارها وتأجيرها من الغير.
الشائبة الأولى تظهر في المقدمة: الأرض «سليخ»! فماذا يعني القضاء على 3500 شجرة زيتون في أرض قيل إنها «سليخ»؟ الأرض «السليخ» تكون بلا أشجار. نقرأ في معجم المعاني: أرض سليخ معناها أرض بور. هنا، حاول كثيرون تذكير الجمعية ومن فيها أن في زغرتا والكورة أراضي أخرى كثيرة «سليخ» فلماذا لم يقم المشروع عليها؟ وكانت إجابة زغرتا: المستثمرون يفضّلون هذه الأرض. إنهم يفضّلون الكورة على زغرتا. ويفضّلون أرض الدير على سواها. وبحسب أهواء من يستثمرون تقرّر ما تقرّر.
جمعية work smart association وضعت هدفاً: تأمين العمل في المنطقة الصناعية للشباب. لكن، هل يعمل الشباب اللبناني في منطقة صناعية؟ نقرأ في المادة السادسة عشرة: «توافق الفريقان على أن تكون أحقية التوظيف لأبناء منطقتي زغرتا والكورة». ماذا عن أبناء منطقتي بشري والبترون؟ سؤالٌ آخر يُطرح عن مشروع يقام في أراضي دير ماروني وفي محاذاة رفات خمسين راهباً مارونياً. مع العلم أن الكثيرين من سكان الكورة اليوم هم موارنة ينزلون من الجرد ويسكنون فيها. وهؤلاء ليسوا في عداد من لهم أولوية العمل في المشروع.
حدّدت مدة العقد بتسع سنوات «تبدأ اعتباراً من الأول من كانون الثاني سنة 2025 تنتهي حكماً في 31 كانون الأول 2034، لكن بناءً على رغبة من الفريق الثاني جرى وعد بتقديم طلب الى الكرسي الرسولي في روما من أجل الاستحصال على موافقة لجعل مدة العقد 27 عاماً بدلاً من تسع سنوات بالإضافة الى السنتين التحضيريتين». كلنا نعلم أن كل المشاريع ذات الأجل الطويل تصبح نهائية أبدية. هذا معناه «العوض بسلامتكم».
ما رأي رئيس دير سيدة النجاة- بصرما الأب طوني حدشيتي؟
ينفي الأب حدشيتي أن يكون المشروع قد انطلق. لكن، ماذا عن تخطيط الأرض والأعمال الهندسية التخطيطية التي انطلقت؟ يجيب «المشروع أعدّ قبل مجيئي بكثير والرهبنة اللبنانية المارونية وروما وافقتا عليه. وأنا لست المرجعية المعنية بإقراره. ولا أعتقد هناك لزوم للكلام عليه» ويستطرد بسؤال: من حدثك عنه؟ أجبته: هو صوت أهالي بصرما؟ أجاب: «الأهالي موافقون على المشروع». وكيف يعلم ذلك وهم رفعوا الصوت؟ يجيب: «لست المرجع الصالح للكلام فيه».
مطلوب وبإلحاج مناطق صناعية ومناطق اقتصادية وتجارية وإعلامية ولكن، يبقى السؤال: لماذا قرار اختيار أرض لا تحوز مواصفات منطقة صناعية؟ وهل «روما» تعرف بالفعل واقع أرض الدير لتوافق على المشروع؟
في بصرما، يُحكى عن مستندات قدّمت لتضليل الكرسي الرسولي والاستحصال على إذنها في تأجير مساحة الأرض لمدة 27 عاماً. نحتفظ عن ذكر الأسماء ونذكر محتوى ما فيها.
أولا، أعدّ أحد الخبراء المحلفين- بناء على طلب الأب باخوس طنوس تقريراً في 14 أيار 2019- حول العقارين رقم 1 و43 واصفاً في الصفحتين 2 و3 أن العقارين يحتويان على بعض أشجار الزيتون واللوز ودوالي العنب. لكن، في الحقيقة هذا الوصف- بحسب أحد المتابعين- غير صحيح وفيه تضليل كونهما يحتويان على 3129 شجرة زيتون وليس على بعض الأشجار. هذا معناه أن الأب العام السابق الأباتي نعمة الله الهاشم بنى قراره بالموافقة على المشروع على تضليل.
ثانياً، أذن السفير البابوي المطران جوزاف سبيتري للأباتي الهاشم بتأجير هذين العقارين بحسب ما ورد في التقرير. هذا معناه أن الموافقة باطلة فما بني على باطل يبطل.
ثالثاً، إن توقيع الأب الرئيس على عقد الإيجار باطل وغير قانوني حسب المادة 276، البند 5، من قوانين الرهبانية اللبنانية، إذا لا يحقّ لرئيس الدير أن يوقّع على أي عقد قبل مناقشته في المجمع الديري وأخذ موافقته عليه. وهذا لم يحصل أبداً، وذلك على الرغم من أن جمهور الدير تمنّى مراراً على الأب الرئيس طوني حدشيتي عدم التوقيع قبل إطلاع المجمع الديري عليه بحسب قوانين الرهبنة المارونية.
هناك خطورة أخرى في عقد الإيجار، تكمن في المادة السابعة من العقد، التي تنصّ على أن الفريق الثاني- أي الجمعية التي يملكها طوني فرنجية- يستطيع طلب فسخ هذا العقد في أي وقت أراد. وإذا فعل، فماذا سيحلّ في هذه المساحة من أملاك الدير التي يكون قد قطع منها ما لا يقل عن 3500 شجرة زيتون؟
يبدو أن الموضوع الشائك يأخذ مداه في ظلّ رفض من محيطه بتنفيذه وإصرار من وقّعوا عليه على المضي قدماً به. في هذا الإطار حكي أن من يعترضون أخذوا نفساً حين صدر تعميم صادر عن السفارة البابوية في 16 آذار 2023 (مستند رقم 8)، موقّع من السفير البابوي باولو بورجيا، اعتبر أن كل الأذونات الصادرة قبل الأول من كانون الثاني 2021 ملغاة إذا لم تكن قد نفذت قبل التاريخ المذكور. ويومها ظنّ المعترضون أن هذا التعميم سيشمل هذا المشروع أيضاً كونه أعطي الإذن له في 25 تشرين الأول 2019 من قبل السفير البابوي جوزاف سبيتري، خصوصاً أنه لم يكن قد بدأ العمل به إلا عام 2023 بحفرِ بئر إرتوازية في شهر أيار. واللافت أن لا أحد تأكد حتى هذه اللحظة ما إذا كان المشروع مشمولاً بالتعميم البابوي أم لا.
لا، لا أحد يريد اتهام أحد جهاراً، لكن، الأكيد أن خطأ حصل في مكانٍ ما ورسم سؤالاً بارزاً: لماذا الإصرار على إقامة منطقة صناعية في أرضٍ زراعية، مليئة بأشجار الزيتون المباركة، في وقت هناك عقارات لا تعدّ ولا تحصى «سليخ»؟ وإذا صدق أن هناك تضليلاً فمن وراءه؟ نترك بصرما في همِّها في زمنٍ تبحث فيه عن سلامٍ رافعة غصن زيتون.