كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
شهر مَرّ على الحرب لا بل الابادة الجماعية في غزة من دون ظهور أي نتائج سياسية فعلية تسمح في الخروج باستنتاجات بقرب انتهائها. فلا حركة حماس استطاعت ترجمة ضربتها العسكرية الخاطفة والناجحة «طوفان الأقصى» الى شل الكيان الاسرائيلي بسبب المساندة الدولية الواسعة، ولا اسرائيل نجحت حتى الآن في توجيه ضربة قاضية للبنية التحتية العسكرية لحماس كمدخل لتغيير «وجه الشرق الاوسط» وهو الهدف الذي حددته حكومة الحرب الإسرائيلية.
ومعه يبدو أفق الحرب مفتوحاً وهو ما لا يمكن استمراره الى ما لا نهاية، لا بل ان الهامش الدولي المُعطى للحكومة الاسرائيلية بدأ يقترب من النفاد. فالتعاطف العارم للمجتمعات الغربية بدأ يتبدل بشكل كبير إثر المشاهد المروعة للمجازر اليومية الحاصلة، ما يُحرج الحكومات المنخرطة في منح اسرائيل دعما مفتوحا وعلى رأسها الادارة الأميركية، ويدفع باتجاه توقع الاقتراب من إرغام اسرائيل على القبول بوقف لإطلاق النار قبل نهاية الشهر الحالي ما يجعلها ملزمة بالسعي لتحقيق أهدافها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وفي خطوة تمهيدية دعت باريس لعقد مؤتمر دولي بشأن إقرار وتأمين مساعدات انسانية الى غزة في التاسع من هذا الشهر. والمؤتمر الذي سيسبق القمة العربية الاستثنائية في السعودية، ستحضره مصر والأردن ودول الخليج وجامعة الدول العربية. صحيح أن طابعه انساني إلا ان «نكهته» ستكون سياسية بامتياز وهو ما يفسر استثناء اسرائيل من الدعوة إليه.
وخلال إلقاء أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله لخطابه لوحِظ أنه هاجم واشنطن وبرلين ولندن لكنه تعمّد عدم التطرق الى باريس ولهذا الامر دلالاته من دون شك. الواضح أن «حزب الله» يريد المحافظة على تواصله مع المجتمع الدولي من خلال القناة الباريسية، رغم تصنيف البعض لموقف ماكرون خلال زيارته لإسرائيل بالنافر والذي توجّه بالدعوة لتشكيل تحالف دولي شبيه بالذي شكل لمحاربة «داعش».
لكن مع شيء من التدقيق فإنّ ماكرون لم يُسارع الى زيارة اسرائيل فور حدوث «فيضان الأقصى» كما فعل الرئيس الاميركي والمستشار الالماني ورئيس الوزراء البريطاني، بل انتظر عشرة أيام قبل القيام بزيارته. بالتأكيد هذا لا يخفف من تضامنه ودعمه لإسرائيل، لكنه يؤشّر الى وجود حسابات أخرى موجودة لدى الايليزيه. فالجالية الاسلامية في فرنسا تتجاوز الستة ملايين شخص، وهنالك من يعتقد أنها فعلياً تقارب الثمانية ملايين. ولكن في المقابل هنالك زهاء النصف مليون يهودي يحمل معظمهم الهوية الفرنسية. صحيح أن الفارق كبير بين حجم الجاليتين، لكن الجالية اليهودية تعتبر فاعلة جدا وهي تُمسك بمفاصل مهمة في فرنسا ما يجعلها الجالية اليهودية الثانية الأكثر تأثيراً على المستوى الدولي بعد اللوبي اليهودي في الولايات المتحده الاميركية.
ومع اندلاع الحرب في غزة ببشاعتها وقساوة مشاهدها كان من المنطقي أن تأخذ الادارة الفرنسية في عين الاعتبار هذا التوازن الداخلي الصعب، خصوصا مع اندفاع اليمين المتطرف الفرنسي الصاعد لصالح اسرائيل. ففي السابق انطلق هذا اليمين المتطرف على اساس عدائه للجالية اليهودية، لكن الامور تبدّلت خلال السنوات الماضية ليحلّ التقارب مكان العداء وليأخذ بُعده الجديد مع حرب غزة.
الارجح أنّ ملف الهجرة الذي يعتبره الفرنسيون بأنه بات يشكل تهديدا وجوديا للهوية الفرنسية هو سبب هذه الانعطافة. المهم أن الحكومة الفرنسية والتي كانت ما تزال خارجة من مواجهة صعبة مع الجالية الجزائرية والتي قيل انّ روسيا دخلت على خط تشجيعها لحسابات أوكرانية، لا بد أن تكون قد شعرت بالخشية من عودة الاضطرابات ولكن بشراسة أكبر هذه المرة. ذلك أن الإحصائيات الرسمية أظهرت حصول حوالى 900 إعتداء منذ بداية الحرب وحتى نهاية شهر تشرين الأول الماضي، وجرى وضعها في سياق «معاداة السامية»، 60 % منها طالت اشخاصا و40 % طالت ممتلكات وأماكن عبادة.
لكن الأهم أن التعاطف مع اسرائيل بدأ يتراجع بعد المشاهد المروعة في غزة. والسؤال الذي بات مطروحا الآن هو حول موعد إعلان وقف اطلاق النار. فالحسابات الداخلية الدقيقة لم تعد حكرا على فرنسا او اوروبا فقط بل طالت مجتمعات أخرى مثل روسيا على سبيل المثال. فموسكو التي عانت كثيراً من المتطرفين الشيشانيين تدرك أن ما يحصل في غزة سيؤدي الى اعادة تجييش المتطرفين الاسلاميين الذين يقاتلون السلطات بقوة. وجاءت حادثة مطار داغستان لترفع من مستوى القلق، رغم أن «وحول» غزة التي اجتذبَت واشنطن تفيد الكرملين على مستوى صراع المصالح الدولية مع البيت الابيض، وأيضا على مستوى الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وفي آخر الاستطلاعات الأميركية والتي أجرتها جامعة كوينيبياك تبين أن 84 % من الأميركيين قلقون من إمكانية جر بلادهم الى الحرب الدائرة في غزة. وأن 71% وهي غالبية كبيرة تؤيد إرسال المساعدات الانسانية الى غزة، و51% منهم فقط تؤيد الاستمرار بإرسال مساعدات عسكرية الى اسرائيل، وهي نسبة تراجعت كثيرا مع بداية الحرب، ما يعني تبدلا واضحا في مزاج الشارع الاميركي.
لكن السؤال الأهم لدى العواصم الغربية لا سيما واشنطن، هو كيف ستكون نهاية هذه الحرب ؟ وبتعبير أوضح: هل تملك اسرائيل صورة واضحة للاتجاه الذي تسير به الحرب وما إذا كانت قادرة على تحقيقه خلال الاسابيع المعدودة المقبلة قبل نفاد الوقت المسموح؟
فالصواريخ ما تزال تتساقط على البلدات الاسرائيلية وصولا الى تل أبيب نفسها، والقدرات القتالية البرية لحماس ما تزال قوية وفاعلة، كما أن شبكة الأنفاق ما تزال في جزئها الاساسي تعمل بصورة سليمة وآمنة وحتى تلك التي تربط القطاع بمصر.
وفي ظل إصرار القيادة العسكرية الاسرائيلية على قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة، حذّرت القيادة العسكرية الاميركية اسرائيل من أن تكون حماس تعمل على استدراج قوات النخبة الاسرائيلية الى أزقة غزة وإنزال خسائر جسيمة بها حتى في ظل الدمار الحاصل. وبالتالي العمل على إطالة أمد الصراع حيث يعمل عامل الوقت لمصلحة اسرائيل لناحية استنفاد كامل التأييد الدولي لصالح إسرائيل. لكنّ القيادة العسكرية الاسرائيلية والتي أصرّت على سلامة خطتها وحاجتها للمزيد من الوقت، قالت انها تأخذ في حسبانها مواجهة تكتيكات حرب العصابات التي تسعى إليها حماس.
لكن ثمة موعدين اساسيين على الروزنامة الدولية تتعلقان بالصورة السياسية المستقبلية في غزة بعد انتهاء الحرب. الموعد الأول يتعلّق بانعقاد القمة العربية الطارئة في الرياض.
والموعد الثاني يتعلق بإنجاز الإنتخابات المصرية بعد حوالى الشهر، وهو ما يستوجِب أن تكون الحرب قد هدأت لمباشرة مصر في القيام بالدور المطلوب منها.
وخلال جولة وزير الخارجية الأميركي الأخيرة في المنطقة، طمأنَ بلينكن وزراء خارجية بعض الدول العربية والذين التقاهم في العاصمة الاردنية بشأن التسهيلات الانسانية لغزة، واستبعاد عملية تهجير الغزّاويين باتجاه سيناء. ولكن تفسير ذلك يعني أنه لن يكون هنالك وقف لإطلاق النار الآن وأنّ المهلة المعطاة لإسرائيل ما تزال سارية.
وذكر أيضاً أنّ بلينكن نقل للوزراء العرب النقاشات الجارية بين واشنطن وتل أبيب حول شكل الترتيبات الأمنية في غزة بعد حصول وقف اطلاق النار عندما يحين أوانه، والتي ترتكز على النقاط التالية:
– نشر قوات عربية مطعّمة بقوات دولية عند طول الحدود بين قطاع غزة ومصر، من أجل ضبط تهريب السلاح والمواد المستخدمة في حفر الانفاق، بعدما تبيّن أن حركتي حماس والجهاد حصلتا على الجزء الأكبر من السلاح من خلال أنفاق للتهريب بين غزة وسيناء.
– سلّمت واشنطن القاهرة تقريرا اسرائيليا مفصّلا تضمن أسماء متّهمين في مسألة التهريب.
– كيفية ادارة الوضع في غزة بعد الحرب، مع تسجيل تحفّظ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن إيلاء السلطة وحدها مسؤولية إدارة القطاع، واستبدال ذلك باستحداث تركيبة جديدة تتولى مهمة الادارة.
– الالتزام الاميركي بعدم حصول أي تهجير لأهالي غزة باتجاه مصر.
– معارضة مصر لتوجيه المهجّرين الغزاويين من شمال القطاع الى جنوبه بمحاذاة الحدود الفاصلة عن مصر، كَون ذلك يؤسّس لمشاكل وتعقيدات كثيرة مستقبلاً.
– وضع برنامج واضح ومحدد لإعادة الاعمار، على أن يترافَق ذلك بمهام الاشراف السياسي للدول الخليجية المانحة مع آلية واضحة في هذا الاطار.
– تحديد كيفية اعادة الاعمار وإبقاء منطقة خارج هذه الورشة كي تكوّن بمثابة منطقة عازلة.
ووفق ما تقدّم تبدو المشاريع القائمة لترتيب مرحلة ما بعد الحرب ترتكز على خارطة فلسطينية جديدة خارجة عن نطاق النفوذ الايراني، وهو ما يعني استطراداً التأسيس لإعادة رسم خارطة نفوذ سياسي جديدة في الشرق الاوسط واعادة رسم استراتيجيات جديدة أيضا، هذا إذا لم تحصل تطورات ميدانية غير متوقعة من الآن وحتى موعد تثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما سيؤدي الى نتائج سياسية أخرى ومختلفة، ومع عدم إغفال القناة التفاوضية القطرية بين واشنطن وطهران والتي بَدا واضحاً أنها تعمل بنشاط وفعالية.