كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
بالتأكيد، لم يعد العقل العسكري الإسرائيلي يفكّر جدّياً في تنفيذ العملية البرّية، وفق التصور الذي رسمه في الأيام الأولى، بعد 7 تشرين الأول. لكنه أيضاً ليس مستعداً للقبول بوقف فوري للحرب، لأنّه سيعني هزيمة الجيش وتحطيم صورته التي كانت أسطورية ذات يوم. وقد تندفع إسرائيل إلى تبنّي خيار ثالث هو الاستنزاف!
منذ بداية الشهر الجاري، بدأت إسرائيل تتعرّض لضغوط دولية متزايدة لوقف القتال في غزة. فالرأي العام لم يعد قادراً على تحمّل الحجم الهائل من الدماء في صفوف المدنيين.
وفي الأساس، الغربيون أعطوا إسرائيل ضوءاً أخضر للقتال ضدّ «حماس» على خلفية أنّ هذه الحركة استهدفت مدنيين في عملية «الطوفان» وأوقعت فيهم المئات بين قتلى وجرحى ورهائن. وقد استفاد الإسرائيليون من هذه المسألة لتجييش الرأي العام العالمي.
حتى إنّ العالمين الإسلامي والعربي تأثرا في الأيام الأولى بالحملة الإسرائيلية، بدرجات معينة، على رغم من أنّ استهداف المدنيين الفلسطينيين بأرواحهم وأملاكهم هو ممارسة إسرائيلية شبه يومية منذ العام 1948.
اليوم، بعد مرور شهر على الحرب، تبدّلت الصورة. ولم تعد إسرائيل قادرة على الاستثمار في ملف المدنيين، بل بات نقطة ضعف لها. فالرأي العام العالمي يكاد ينسى ما سقط من مدنيين إسرائيليين لمرّة واحدة خلال عملية «حماس»، وتستفزه مشاهد المجازر التي تنفّذها إسرائيل يومياً في شكل ممنهج، بتدمير المساكن على من فيها، حتى قارب عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين الـ 10 آلاف قتيل، و35 ألف جريح.
لذلك، الأوروبيون يضغطون اليوم لوقف المجزرة، وهذا الاتجاه واضح طبعاً في العالمين العربي والإسلامي. ويوماً بعد يوم، تبدو إدارة الرئيس جو بايدن مقتنعة بأنّ استمرار الحرب على هذا المنوال التدميري لن يتحمّله الرأي العام العالمي، ولن يوصل إلى أي نتيجة سياسية. ولذلك، هي بدأت تضغط على إسرائيل لدفعها نحو تسوية تسمح لها بالخروج من المأزق بما أمكن من أرباح سياسية. فعامل الوقت لا يصبّ في مصلحتها، وقد تنقلب المعادلة، بعد أسابيع عدة أو أشهر، وتضطر إلى الرضوخ لتسوية تكرّس هزيمتها. وهذا هو فحوى الرسالة التي حملها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل.
ولكن، يجدر التوقف عند التوازنات السياسية في داخل الولايات المتحدة وإسرائيل، لكونها عاملاً حاسماً في تحديد الاتجاه:
1- يتعرّض بايدن داخل الحزب الديموقراطي لضغوط يمارسها بعض مراكز القوة، لدفع الولايات المتحدة نحو التورط أكثر في النزاع، دفاعاً عن إسرائيل. وكذلك، يستفيد الجمهوريون من الإحراج الذي يصيب إدارة بايدن للمزايدة، على أبواب عام الانتخابات الرئاسية. وتريد مجموعة الضغط اليهودية الاستفادة من هذا التعاطف النادر لتحقق لإسرائيل مكسباً تاريخياً، هو تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، من طريق تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء وتنفيذ الخطة القديمة المعروفة.
2- هناك تباين في وجهات النظر داخل إسرائيل، بين نتنياهو وحلفائه في اليمين المتطرّف من جهة وقوى المعارضة من اليسار والوسط من جهة أخرى. وفيما يتوافق الجميع على خطة تهجير الغزيين، فإنّ هناك خلافاً بين هذه القوى حول جدوى استمرار القتال ودفع الأثمان الباهظة من الدماء، إذا لم يكن له أفق سياسي واضح.
وهذا التخبّط السياسي داخل مراكز القرار والقوى السياسية في واشنطن، كما في إسرائيل، هو الذي يؤخّر وقف النار والتفكير في التفاوض توصلاً إلى تسوية سياسية، علماً أنّ مفاوضات واشنطن مع إيران لم تتوقف «تحت الطاولة»، ويكشف عنها الإيرانيون بين حين وآخر.
ولذلك، بدأت تنمو المخاوف من اتجاه الوضع في غزة نحو المراوحة والمماطلة التي ربما تريح الطاقم السياسي في إسرائيل، وتمنح الطاقم العسكري قدرة على تحقيق أهداف بالغة الخطورة، بنحو تلقائي.
ووفقاً لهذا التصور، توحي إسرائيل باستعدادها لفتح باب التفاوض، من دون أن توقف ضرباتها للمدنيين، بحجة استهداف مواقع «حماس» وتجمعاتها، ومن دون أن ترفع حصارها الإنساني عن القطاع. وسيكون هذا الوضع مثيراً جداً للقلق، لأنّه يعني إفراغ غزة من سكانها تدريجاً، تحت وطأة الرعب، من دون أن تتكبّد إسرائيل أعباء الدخول براً.
ووفق التقديرات الحالية، فإنّ النتيجة لسيناريو الاستنزاف ستكون كارثية على المدنيين الفلسطينيين. ووفق وتيرة الـ 10 آلاف قتيل والـ 35 ألف جريح شهرياً، ستبلغ خسائر المدنيين الفلسطينيين سقوفاً لا يمكن تخيّلها، إذا استمرت الحرب أشهراً عدة.
وأما الثمار السياسية فقد تكون تهجير جزء كبير من أهل غزة، تحت وطأة النار، بمجرد أن تسمح مصر بفتح بوابة رفح أمام النازحين، تحت ضغط معنوي هائل. وهذا الأمر قد يحقّق لإسرائيل ما سعت إليه، من دون الحاجة إلى المخاطرة بالدخول براً. وبعد ذلك، يأتي التفكير بتسوية سياسية، بمشاركة وتمويل دوليين وعربيين. فحرب الاستنزاف قد تكون هي «كلمة السرّ» التي يعمل لها الإسرائيليون، في نحو غير معلن، بعد تراجعهم عن العملية البرية. وهذا ما يعني أنّ أمام غزة أشهراً صعبة جداً على الأرجح، وبها ستتأثر دول الشرق الأوسط كلها.