كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
هل يخوض «حزب الله» وحركة «حماس» معركة واحدة بقرار واحد منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول الماضي وما قبلها وما بعدها؟ هل يتشاركان في القيادة؟ أم أن لكلّ منهما قراره ومعركته وخياراته؟ هل العلاقة بينهما تمرّ بمرحلة عدم ثقة؟ وهل يبحث كل منهما عن استراتيجية قتال ومواجهة مختلفة تقيهِ شرّ الحرب المدمرة التي تشنّها عليهما إسرائيل بغطاء دولي لم يسبق له مثيل؟
في إطلالته التي انتظرها العالم، يوم الجمعة الماضي في 3 تشرين الثاني الحالي، كان إعلان الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله أنّه لم يكن على علم مسبق بعملية «طوفان الأقصى» صادماً. والصدمة الأكبر، إضافته أنّه علم بها كما باقي الناس من خلال الأخبار بعد حصولها. فهل يعقل أن تنفِّذ «حماس» عملية من هذا النوع وبهذا الحجم وبهذه الخطورة من دون أن تُطلِع قيادة «حزب الله» على موعدها وحجمها وأهميتها لكي يتّخذ الإجراءات المناسبة للحماية؟
فبطبيعة الحال وبعد عملية من هذا النوع يمكن أن يكون «الحزب» هدفاً للرد الإسرائيلي، وبالتالي سيكون معرّضاً في مقرّاته وسلامة قياداته للخطر المباشر. قد يكون احتفاظ «حماس» بسرّ التوقيت ضماناً لنجاح العملية خوفاً من التسريب، ولكنه في الوقت نفسه دليل على عدم ثقة بالسيد نصرالله وبحزبه إذا تمّ التسليم بما قاله حول هذا الموضوع حيث أنه لا يمكن أن يناور في هذا الخصوص، وهو الذي يعطي صورة عن نفسه بأنّه لا يقول إلا الحقيقة.
الأمر الصادم الثاني الذي أعلن عنه نصرالله أنّه تلقّى تحذيرات من أنّ أي عمل عسكري يقوم به من لبنان ضد إسرائيل سيجعل الجمهورية الإسلامية في إيران هدفاً للردّ خصوصاً بعد الحشد الأميركي العسكري الإستراتجي الكبير في المنطقة دعماً لإسرائيل. وكانت التحذيرات الأميركية واضحة في هذا المجال قبل أن يخرج نصرالله ويصرِّح بذلك ويشنّ حملة عنيفة ضدّ الولايات المتحدة الأميركية، ويذكِّر بماضي الصراع بينه وبينها، ويهدِّد بأنّه أعدّ العدة لمواجهة أساطيلها وغواصاتها وحاملات طائراتها وبوارجها. توقيت غير مناسب لـ»الحزب»؟
أن يعلن السيد حسن نصرالله عن مثل هذين الأمرين يعني أنّه يُخفي عتباً على قيادة «حماس»، وأنّه لا يمكن أن يدخل الحرب في التوقيت الذي اختارته «الحركة» قبل أن يدرس النتائج التي قد تترتّب عليها والكلفة والثمن خصوصاً أنّ إسرائيل وواشنطن حدّدتا أهدافاً كبيرة تنطلق من القضاء على «حماس» إلى القضاء على «الحزب» في حال انخرط في هذه الحرب. وربّما لهذا السبب بقي «الحزب» منخرطاً في حرب الإشغال على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تحت سقف قواعد الإشتباك. وقد بدا أنّه يريد أن يبقى محافظاً على هذه القواعد. وقد عبّر نصرالله نفسه عن هذا الأمر عندما ذكّر بهذه القواعد وبأنّ «المدني مقابل مدني».
هناك سوابق من هذا النوع شاهدة على عدم الثقة وعلى الإفتراق في الخيارات الصعبة التي لا يكون واضحاً فيها من يتولّى الإمرة. الأمر لمن في هذه الحرب بين «حماس» وإسرائيل؟ لماذا كانت نظرية وحدة الساحات التي بشّر بها «حزب الله»؟ وهل هي حرب واحدة يخوضها الحزب والحركة؟ أم أنّ لكل منهما حربه على جبهته؟ وإذا كانت المسألة كذلك فلماذا يطالب بعض قادة «حماس» الحزب بالتدخل والتصعيد ويعتبون عليه طالما أنّه لم يكن شريكاً، أو حتى عالماً، بقرار بدء الحرب؟
في تشرين 1973 ذهبت مصر وسوريا معاً إلى الحرب. في العام 1970 تولّى حافظ الأسد السلطة في سوريا بعد انقلاب عسكري قاده ضدّ رفاقه في حزب البعث. وفي العام نفسه وصل أنور السادات إلى رئاسة الجمهورية المصرية بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. لم تكن مسألة بسيطة أن تُبنى الثقة بين شخصين وصلا توّاً إلى السلطة ولا يعرفان بعضهما من قبل كثيراً، وأن يتشاركا في التخطيط لحرب كبيرة تتعدّى بأخطارها وحجمها ما أقدمت عليه حركة «حماس» في «طوفان الأقصى».
كان الأسد وزيراً للدفاع عندما حصلت حرب 1967 وخسرت فيها سوريا الجولان، وقد تمّ تحميله لاحقاً مسؤولية قرار الإنسحاب من الجبهة قبل أن يدخل إليها الجيش الإسرائيلي. وكان السادات في موقع قيادة غير عسكري عندما انهزمت مصر في تلك الحرب وخسرت سيناء. لم يكن من السهل على النظامين إعادة بناء استراتيجة حرب خلال ستة أعوام فقط. نجحا في المحاولة، وحصل الإختراق على الجبهتين في الجولان وسيناء. ولكن إذا كانت الثقة قد بُنِيَت في الذهاب إلى المعركة فإن قرار السادات المنفرد بالخروج منها هدم تلك الثقة لتبدأ الحرب بين الرجلين والنظامين.
ما كان بين السادات والأسد نشأ مثله بين الأسد ورئيس منظمة التحرير الفسطينية ياسر عرفات. في الأساس لم يكن هناك أي تناغم بين الرجلين، وكأنّهما آتيين من عالمين متناقضين ناتجين عن شخصيتين مختلفتين. كان الأسد يريد أن يكون صاحب القرار في أي حلّ للقضية الفلسطينية في السلم وفي الحرب، وكان عرفات يريد أن يكون هو صاحب هذا القرار، خصوصاً بعد هزيمة 1967 واعتباره أنّ الأنظمة العربية لم تعد قادرة على أن تحمل عبء هذه القضية، وأنّ على منظمة التحرير أن تكون هي الممثل الشرعي الوحيد لها.
منذ العام 1976 اختلف الرجلان وتصارعا على الأرض اللبنانية، ثم اتفقا عَرَضاً على معارضة توجّه السادات إلى السلام مع إسرائيل. ولكن الأسد بقي حذراً من سلطة عرفات ومن تحكّمه بقرار المواجهة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية معتبراً أنّه يمكن أن يجرّ سوريا إلى مواجهة مع إسرائيل من دون أن تكون شريكة في القرار. وهذا ما حصل خلال الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 حيث حمّل الأسد عرفات والفلسطينيين مسؤولية هذا الإجتياح الذي دفعت في خلاله سوريا ثمناً كبيراً تمثّل في تدمير سلاحها الجوي الذي تدخّل في سماء لبنان، والقضاء على عدد كبير من مدرّعاتها المنتشرة بين بيروت والبقاع والحدود السورية. هذا الأمر جعل الأسد يكمل ما بدأته إسرائيل في الإجتياح من خلال العمل على القضاء على أي محاولة لعودة نفوذ عرفات إلى المخيمات الفسطينية في لبنان.
هل ما حصل بين الأسد وبين كل من السادات وعرفات يمكن أن يشبه ما حصل بين «حماس» و»حزب الله»؟ لقد مرّت العلاقة بين التنظيمين الآتيين من أصوليتين إسلاميتين مختلفتين بمراحل صعود وهبوط. انطلق «حزب الله» بعد العام 1982 بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج منظمة التحرير الفلسطينية منه. وانطلقت حركة «حماس» فعلياً بعد العام 1983 داخل فلسطين. التقى التنظيمان عن بعد ومن دون تنسيق في البداية على معارضة توجّه عرفات نحو السلام مع إسرائيل، ولكن الإختلافات المذهبية كانت واضحة حتى خلال وجود قادة «حماس» الذين أبعدتهم إسرائيل إلى لبنان في مرج الزهور في البقاع الغربي في شتاء 1992. كما سطع نجم السيد حسن نصرالله في قيادة «حزب الله» منذ العام 1992 بعد اغتيال إسرائيل الأمين العام السابق للحزب السيد عباس الموسوي، سطع نجم محمد الضيف في قيادة كتائب عز الدين القسّام والجناح العسكري لـ»حماس» منذ منتصف تسعينات القرن الماضي وتدرّج في الصعود حتى صار القائد الأول بعد اغتيال إسرائيل كلاً من عماد عقل والشيخ صلاح شحادة. بعد سيطرة «حماس» على قطاع غزة في العام 2007 استفادت من دعم «حزب الله» وإيران لبناء قدراتها العسكرية بحيث حصلت على تقنيات صناعة الصواريخ والطائرات المسيّرة وحفر الخنادق، وعلى الأسلحة والتدريبات العسكرية. ولكن هذه العلاقة اهتزّت بقوّة بعد بدء الحرب في سوريا عندما اختارت «حماس» أن تقاتل في صفّ المعارضة التي تلتقي معها مذهبياً، ضد النظام السوري الذي كان «حزب الله» يقاتل إلى جانبه. وقد تيقّن «الحزب» من هذا الأمر خلال معركة القصير عام 2013 عندما اكتشف أنّ «الحركة» نقلت خبراتها العسكرية التي تلقّتها منه إلى تنظيمات المعارضة وأنها كانت تقاتل معهم.
ولكن بعد العام 2017 ومع تراجع العمليات العسكرية في سوريا، عمل «الحزب» على استعادة العلاقة مع «الحركة» التي احتفظ قياديون فيها بعلاقات جانبية وأمنية معه. هذا التحوّل اقتضى إحداث تغيير في قيادة «حماس» من خلال استبعاد خالد مشعل ووصول يحيى السنوار واسماعيل هنية وصالح العاروري إلى القيادة. وهذا المحور هو الذي فتح معه «حزب الله» علاقاته الجديدة. في كل هذه التركيبة كان محمد الضيف هو الثابت كقائد الجناح العسكري.
في عملية «طوفان الأقصى» قيل إنّ محمد الضيف هو الذي كان صاحب القرار وأنّه أخفى التوقيت والتخطيط حتى عن قيادة الجناح السياسي. ولذلك هل من المقبول أن يُخفي هذا الأمر حتى عن قيادة «حزب الله» بينما كان أمين عام «الحزب» يحكي دائماً عن استراتيجة وحدة الساحات؟
وضعت عملية «طوفان الأقصى» حركة «حماس» في واجهة الأحداث ولكنّها عرّضتها لحرب لا رحمة فيها هدفها القضاء عليها وجعلت من محمد الضيف متقدِّماً على غيره من قيادات الحركة على مستوى قرار الحرب والعمليات العسكرية على قاعدة «الأمر لي»، بغضّ النظر عن اعتبار أنّ الأمر في مثل هذه المسألة الخطيرة يجب أن يكون ملك الأمين العام لـ»حزب الله» أو منسّقاً معه على الأقلّ.
وقد سرق الضيف الأضواء من نصرالله وجعله في وضع محرج أدّى إلى ابتعاده عن الكلام 26 يوماً. ومن هذه الخلفية يمكن فهم تردّد «حزب الله» في دخول الحرب دعماً لـ»حماس» في قطاع غزة على نطاق واسع، باعتبار أنّه إذا لم يكن شريكاً في قرار الحرب، أو مطّلعاً على قرار عملية «طوفان الأقصى»، فلا يمكنه أن يكون خاضعاً لاستنسابية قيادة «حماس» ومحمد الضيف. فهو استقبل صالح العاروري قبل العملية، واستقبله بعدها وقد يستقبل اسماعيل هنية الذي يقال أنّه سيأتي إلى لبنان. و»الحزب» بطبيعة الحال يؤمِّن الملجأ الآمن لقيادة «حماس» في لبنان التي برزت منها أسماء كثيرة حوّلت لبنان إلى منصة لإطلاق الصواريخ ولعقد المؤتمرات الصحافية. ولكن مثل هذه المواجهة الكبيرة تحتاج إلى قائد واحد وإلى غرفة عمليات ولم يحصل أن انضوى «حزب الله» قبل اليوم تحت لواء أي قيادة أخرى غير قيادته.