كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
كُتِبَ مصيرهم بأن يكونوا وسط حلبة الصراع وعلى أطراف الدولة الغائبة. لا يلبثون أن يقرأوا تاريخ آبائهم حتّى يَفتح صفحاته أمامهم. النّار والنزوح والحروب كما البقاء والصمود واستئناف الحياة، تُلازم الجنوبيين لا سيّما سكّان قرى الشريط الحدودي. يعاينون الموت بأمّ العين حتّى لو لم تكشف الحرب مخالبها رسميّاً. لا تُخفّف مصطلحات ومفاهيم الاختصاصيين والمحلّلين العسكريين والسياسيين من مخاوفهم وهواجسهم. لا تعنيهم التسميات، أكانت مناوشات أم اشتباكات، مضبوطة أم متفلّتة، محصورة النطاق أم مفتوحة المجال، على امتداد 5 كيلومترات أم نحو الأفق الأبعد ووحدة الساحات.
لا يهمّهم كلّ هذا، فَهُم في قلب الحدث. بعضهم ترك بيته وأرضه وأحلامه المحروقة مع مواسمه ونزح مع أولاده إلى الشطر الآخر من الدولة المتهالكة، باتجاه بيروت والمتن وكسروان، فيما قرّر الآخرون عدم الرحيل، خصوصاً من ليس لديهم «مرقد عنزة في جبل لبنان» أو أن يكونوا «عالة» على قريب أو صديق. يُفضّلون الموت على شعورهم بالعجز. يحبسون دموعهم ويخنقون صراخهم، لكنّ معاناتهم وصمودهم وصلا إلى مسامع مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، الذين أعربوا خلال اجتماعهم مطلع الشهر الجاري في دير سيّدة الجبل عن رغبتهم في تفقّد أبناء رعاياهم في القرى الحدودية، في حين أنّ المسؤولين السياسيين شبه غائبين عن الحضور ومعاينة المنطقة.
كان يُفترض أن تكون الزيارة اليوم أو مطلع الأسبوع المقبل، لكنها تأجّلت إلى «وقت لاحق وقريب جدّاً وسيُعلن عنها»، وفق الأمين العام لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان الأب كلود ندره، الذي لفت في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أنّ «الأسباب الموجبة مرتبطة بتطوّرات الواقع الميداني الأمني واستكمال التنسيق والتعاون مع الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة». وشدّد على أنّ زيارة الأساقفة الكاثوليك موجّهة إلى كل أهل الجنوب. فالكنيسة تحضن الجميع وهي لكلّ اللبنانيين». وفيما تشير معلومات إلى أنّ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي سيكون ضمن الوفد، تحفّظ الأب ندره عن ذكر الأسماء والأماكن في الوقت الحالي لدوافع أمنيّة. رحلة «الحج» هذه إلى قرى الجليل اللبناني أو كما كانت تُعرف بـ»بلاد بشارة» لها أبعادها الإيمانية والوطنيّة والماديّة. إذ أكّد الأمين العام للمجلس الكاثوليكي أنّ «زيارتنا لن تكون معنوية فقط، بل تشمل مساعدات وبرامج تساعد أهلنا على الصمود، ولهذا السبب يتشكّل الوفد إلى جانب الشخصيات الروحيّة من مؤسسات وجهات كنسية اجتماعية وتنموية، محلية وخارجية، بين 10 و15 جمعية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «كاريتاس» و»جمعية مار منصور دي بول».
واعتبر ندره أنّ حضور الأساقفة والبطاركة في الجنوب سيكون رسالة إلى العالم والمجتمع الدولي للضغط عليه من أجل المساهمة في وقف الحرب والقتل والعنف غير المبرّر بحقّ أي إنسان أو بريء، ورفع الظلم والإبادة عن الشعب الفلسطيني من جهة، ودعوة إلى ضرورة تحييد لبنان الذي يشهد منذ فترة حروباً من نوع آخر من جهة أخرى. فلم يعد المواطن اللبناني من أقصى شماله حتى جنوبه قادراً على تحمّل أي حرب جديدة ستكون أكثر تدميراً».
وأضاف أنّ «همّ الكنيسة التي تعمل بصمت «لا تعرف شمالك ما تفعل يمناك»، لا يقتصر فقط على الصامدين في الجنوب، بل تشمل الذين نزحوا إلى الداخل، والتحضير لبرامج تساعد الطلّاب منهم وما فاتهم حتّى الآن من عامهم الدراسي جرّاء النزوح، على أن لا يؤدّي ذلك إلى تهجير مبطّن يحول دون عودتهم إلى أرضهم عندما تسمح الظروف».
أمّا من الجنوب حيث ينتظر سكّان تلك الناحية من الوطن المعلّق على صليب العذابات والمآسي تلك الزيارة، فيرى راعي أبرشية صور المارونية المطران شربل عبدالله الذي يُنسّق ويتابع التحضيرات مع الأب كلود ندره، أنها تحمل «رسالة رجاء وتعزية وتجذّر لكل أهلنا في الجنوب على مختلف انتماءاتهم الروحية والدينية والثقافية. وستكون مدينة صور محطّة مهمّة نظراً لتركيبتها المتنوّعة والتي تضمّ كل العائلات الروحية من مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية».
في الخلاصة، وتعليقاً على بعض الإنتقادات التي تطال الكنيسة ومؤسساتها واتهامها بالتقصير، تجدر الإشارة إلى أنه منذ اندلاع الحرب ودخول الجبهة الجنوبية على خطّ الإشتباكات، كانت الكنيسة أول من بادر إلى معاينة أبنائها حيث زار السفير البابوي في لبنان المونسنيور باولو بورجيا رافقه رئيس «المؤسسة المارونية للإنتشار» ورئيس جمعية «سوليدارتي»، القرى الحدودية في بنت جبيل: دبل، رميش، عين إبل، متفقداً إياها، وقدّموا مساعدات طبيّة وغذائية. وتأتي الزيارة القريبة والمرتقبة للبطاركة والأساقفة الكاثوليك لتؤكّد حضور الكنيسة بين أهلها وشعبها وأنّهم غير متروكين لمصيرهم.