كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
هي ليست المرّة الأولى التي تتسبّب فيها إسرائيل بمجازر بيئية على الحدود الجنوبية مستخدِمة القنابل الفوسفورية المحرَّمة دولياً. فمنذ اجتياح العام 1982 والغابات في أعلى قائمة بنك أهدافها. الخسائر البيئية، في هذه الجولة القتالية، تُقدَّر بعشرات ملايين الدولارات، حتى الساعة، وقد يكون الآتي أعظم. أما الخوف، فأن تكون الحرائق التي اشتعلت في أكثر من 50 بلدة حدودية جزءاً من انتهاج سياسة الأرض المحروقة إخلاءً للمناطق وتهجيراً للسكان.
في العام 2021 كَثر الحديث عن أيادٍ إسرائيلية خفيّة تقف وراء حرائق اجتاحت مناطق لبنانية عدّة. المشهد نفسه تكرّر – لكن في ظرف مختلف – مع بدء الحرب على غزة، ما عزّز فرضية افتعال هذه الحرائق من أجل كشف المنطقة الحدودية أمام أجهزة ومعدّات وأبراج مراقبة إسرائيلية. فما صحّة هذه النظرية خصوصاً بعد أن تمّ إطلاق النيران باتّجاه رجال الإطفاء لمنعهم من إخماد حرائق تسبّب بها القصف. وهل المقصود «ترميد» الأراضي وتهجير قاطنيها؟ أسئلة مهمّة ومشروعة، لكن تبقى التداعيات البيئية بنفس القدر من الأهمية. والحديث عن تأثير استخدام القنابل الفوسفورية على الإنسان والحيوان كما على التربة والمزروعات والمياه. إلى التفاصيل.
البداية مع وزير الزراعة، الدكتور عباس الحاج حسن، الذي استنكر في حديث لـ»نداء الوطن» ما يحصل معتبِراً أن هناك قانوناً واضحاً يمنع التعدّي على الثروة بكل مندرجاتها، حرجية كانت أو صمغية أو غيرها، وليس فقط إبان الحروب. «غير أن الحروب تفتح شهية البعض على عمليات القطع الجائر، ولدينا تخوّف من أن نشهد بعضاً من هذه الممارسات، لكننا سنكون في المرصاد من خلال ما تبقّى من مأموري الأحراج. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى رفد وزارة الزراعة بهؤلاء المأمورين ذلك أن الملف وطنيّ بامتياز، ولا يجب التساهل فيه لما له من تأثير على بيئتنا كما على قطاعنا الزراعي وثروتنا الحرجية». فمنذ اللحظة الأولى، بدأت وزارة الزراعة بمسح أوّلي للأضرار الناتجة عن القصف الإسرائيلي تأكيداً لوقوفها إلى جانب أهالي المنطقة والمزارعين، وحرصاً منها على أن يبقى هؤلاء في أرضهم. إذ، بحسب الحاج حسن، يبدأ الانتصار بالصمود والثبات في الأرض التي تشهد قتالاً مع الإسرائيليين الذين يحاولون بشتّى الطرق حرق الأراضي وتفريغ المدن من سكانها.
تداعيات القصف الإسرائيلي لم تقتصر على الثروة الحرجية فحسب، حيث تعدّتها لتشمل البيئية والحيوانية والمائية أيضاً. هي عدوانية لم تعترف يوماً بأي مقياسٍ أخلاقي رادعٍ، ما تسبّب بإحراق أكثر من ألف دونم من الأراضي بشكل كامل حتى الساعة، 60% منها أشجار صمغية وحرجية والباقي أشجار زيتون وأشجار أخرى مثمرة. وفي الجدول المرفق نعرض أرقاماً إضافية ذات صلة. في جميع الأحوال، وكعادة حروب الكبار، يبقى المواطنون والناس العاديّون الضحية الأكبر. فمن سيعوّض على المُزارع الخسائر التي يتكبّدها في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة أصلاً؟ سؤال آخر توجّهنا به إلى الحاج حسن، فأكّد أن «الوزارة قامت باتّخاذ كافة الإجراءات الممكنة التي من شأنها تعزيز ثبات أهلنا، وذلك لتأمين التفاعل المباشر معهم من خلال خطوط المصالح المفتوحة أو رؤساء المراكز أو حتى مأموري الأحراج».
الوزارة تعمل على إجراء المسوحات والقيام بالإحصاءات بعد أن حصلت على وعد من الحكومة، ومن لجنة الطوارئ والكوارث تحديداً، بالتحرّك ضدّ ما يحصل من خروقات وانتهاكات. هذا إضافة إلى منظمة الفاو والمنظمات الدولية الأخرى التي تعهّدت بتقديم المساعدات فور الانتهاء من إنجاز المسوحات وتوحيد الأرقام المتعلّقة بالأضرار. «من الصعب جمع كافة المعطيات وحصر الأرقام قبل انتهاء العدوان الإسرائيلي، غير أنني سأغتنم الفرصة لأقول إن قطاعنا الزراعي مدماك أساسي للأمن الغذائي اللبناني والقومي. وبالتالي، لا يمكننا أن نتغافل ولو للحظة عن أي شطر أو فرع من فروع هذا القطاع. وهذه بمثابة دعوة للجميع كي تتضافر جهود القطاعَين العام والخاص، كما مساعي المجتمع المدني والأهالي، في سبيل المساعدة للوصول إلى الخواتيم الإيجابية»، كما ينهي الحاج حسن.
من الزراعة إلى البيئة، وتحديداً مع مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، الدكتور جورج متري. فخلال اتصال مع «نداء الوطن»، أسف لوجود خرق واضح للقانون الدولي بعد أن تضرّر لبنان وتكبّد خسائر فادحة نتيجة الأعمال العدائية التي يشهدها الجنوب. «لغاية اليوم اشتعل أكثر من 500 هكتار من الغابات والأراضي الزراعية. منها أراضٍ حرجية تتضمن غابات كثيفة من السنديان والصنوبر والتي تتمتع بقيمة جمالية وإيكولوجية وبيئية كبيرة. ومنها أيضاً الأراضي، المزروعة بمعظمها أشجار زيتون، ذات القيمة الاقتصادية المهمّة بالنسبة للعائلات التي تعتاش منها وتعتمد عليها كزراعة رئيسية». هناك عدّة اتفاقيات ومعاهدات دولية معنيّة بهذه المسألة، وهي تتناول مجمل الأمور البيئية بما فيها ضرورة الحفاظ على الغابات وعدم التعرّض لها وقطع أشجارها وإحراقها. ونذكر اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ؛ الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحّر؛ والاتفاقية الدولية للتنوّع البيولوجي. هذا إضافة إلى المحاكم الدولية التي تنظر وتبتّ في هذا النوع من الاعتداءات والأضرار الناجمة عنها.
نستفسر عن دور وزارة البيئة، فيشير متري إلى أنها تسعى لتوثيق كافة الاعتداءات والانتهاكات الحاصلة على الحدود الجنوبية. وذلك لتشكيل ملف كامل يوضح حجم الأضرار التي طالت القطاع البيئي بالأخص، والمرتبط بدوره بعدّة قطاعات أخرى، كالقطاعين الاقتصادي والزراعي. لكن عدم وضع القصف أوزاره بعد يصعّب إمكانية رصد الأرقام الحقيقية للخسائر الحرجية. وبالنسبة للآثار السلبية على البيئة – إضافة إلى خسارة مساحات واسعة من الغطاء الحرجي المكوَّن من مواد خشبية وغير خشبية، وهي جميعها ذات قيمة بيئية واقتصادية مميّزة – يذكر متري: التأثير على التربة لا سيّما وأن الحرائق طالت المنحدرات، ما يفاقم من تدهور حالة الأراضي خصوصاً على ضوء صعوبة التدخل في هذه المناطق للقيام بعملية الاستصلاح وإعادة التأهيل؛ تدهور حالة المياه والتربة والهواء بسبب توسُّع رقعة الحرائق؛ التأثير على الحياة البرّية والتنوّع البيولوجي، الذي سيمتدّ لسنوات ما يحتاج مراقبة ورصداً من خلال زيارات ميدانية للمناطق التي طالتها الحرائق. وفوق هذا وذاك، هناك طبعاً الخسائر الاقتصادية المباشرة اللاحقة بالأراضي المتضرّرة.
ختاماً، يشير متري إلى أن تكلفة زراعة (وحماية وصيانة) هكتار واحد يحتوي على 750 شجرة تفوق الـ4 آلاف دولار تقريباً. ولنا أن نتخيّل هول الخسائر الناتجة عن اشتعال مئات الهكتارات من الغابات وتفحُّم ثروتها الخشبية. لا بل يُضاف إلى ذلك تضرُّر وتلَف المنتجات غير الخشبية، من نباتات طبيّة وعطرية وموارد طبيعية أخرى تحتضنها الغابات، وقيمتها المادية المباشرة والاقتصادية غير المباشرة. «على الصعيد الشخصي ودون أن نتطرّق إلى الخسائر غير المباشرة، أقدّر تلك المباشرة الناجمة عن الحرائق لغاية اليوم بأكثر من 20 مليون دولار».
من الناقورة وعلما الشعب وعيتا الشعب، إلى يارون ورميش ومجدل سلم، وصولاً إلى ميس الجبل وحولا، تمعن القنابل الفوسفورية التي يُطلقها الجانب الإسرائيلي أذى وحرائق. فماذا عن القانون الدولي وكيف يتمّ التعويض في حالات مماثلة وقد سبق للبنان أن اشتكى لمجلس الأمن؟ يخبرنا وزير الداخلية الأسبق، العميد المتقاعد محمد فهمي، أن اسرائيل لا تعبأ لا بالقوانين الدولية ولا بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. فهي، منذ اجتياح العام 1982، تعمد إلى تدمير المنشآت المدنية على أنواعها، من مستشفيات وأبنية سكنية ومدارس وطرقات وجسور وسواها، بهدف تدمير الاقتصاد دون إثبات وجود أهداف عسكرية فيها. «أجل، نحن أمام خرق فاضح للقوانين الدولية. فقد نصّت كل من اتفاقية جنيف واتفاقية لاهاي على منع الاعتداء على المدنيّين وكل ما يتعلّق بهم، مع تأكيد على ما يلي: مبدأ التفرقة بين المدنيّين والعسكريّين وحماية السكان وأرزاقهم على أنواعها؛ والتمييز بين الأملاك (على أنواعها) المدنية والأهداف العسكرية».
التعويض، في هذا السياق، ملحق أساسي على مستوى تطبيق الاتفاقيات. وقد اعتبر البروتوكول الثاني من اتفاقية لاهاي، ومن خلال اتفاقية جنيف، أن انتهاك القانون الدولي الإنساني هو نوع من أنواع التعدّي يجب أن يعوَّض عنه بإحدى الطرق التالية: الردّ (Restitution)، أي إعادة الوضع على ما كان عليه قبل الفعل؛ أو التعويض، أي تغطية تكلفة الأضرار كما ورد في اتفاقية لاهاي في العام 1907؛ أو الترضية التي تتّخذ شكلاً من أشكال الاعتذار الرسمي أو ما يتّفق عليه الطرفان. وبالعودة إلى الحرائق، نعود ونسأل لِمَ نحن أمام سياسة متعمَّدة لا مجرّد نتيجة طبيعية للقصف العشوائي الذي لا تخلو منه الحروب. ويجيب فهمي: «ترتكز سياسة إسرائيل المعتمَدة منذ زمن بعيد على حرق الغابات والأشجار الكثيفة، وما يحصل هو خير دليل على ذلك. فبالإضافة إلى كشف الغطاء عن قواعد صواريخ يمكن لـ»حزب الله» أن يستفيد منها في المناطق المستهدَفة، يبقى الهدف الأساس من القصف المدفعي وعبر المسيّرات هو إطلاق القذائف الحارقة لإشعال النيران في الأحراج المتاخمة للخط الأزرق منعاً لأي عمليات تسلُّل. ومن هنا نفهم إطلاق النار صوب رجال الإطفاء، كجزء من الحرب النفسية التي تمارسها إسرائيل على المواطنين، من جهة، ولعرقلة إطفاء الحرائق وتهجير أكبر عدد من الأهالي، من جهة أخرى».
الفوسفور الذي تحتويه القنابل مادة كيميائية سامّة بيضاء اللون، أو صفراء اللون أحياناً، ويُصنع من الفوسفات حيث يتميّز بسهولة الاشتعال. القنابل تلك قاتلة وحارقة ولها تأثير سلبي على البيئة المحيطة بالانفجار. كما تتسبّب بتلويث المياه وتؤدّي إلى تشوّهات جلدية لدى الإنسان وإلى أمراض سرطانية في الرئتين. هذا عدا عن الأضرار الكبيرة التي تلحقها بالأراضي الزراعية والثروات الحيوانية والبحرية والنهرية.