كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
لكلّ حقبة سياسية مُعضلات وإشكاليات، تجذب معها وساطات ووفود خارجية، في مغامرة أشبه ببحث عن ابنٍ ضالٍّ بين الأدغال. مهماتهم تُعرف من أسمائهم. فارتبط فيليب حبيب (المبعوث الخاص للرئيس الأميركي رونالد ريغان إلى بيروت خلال العامين 1981 و1982) بقضية إطلاق النار بين القوات الإسرائيلية و»منظمة التحرير الفلسطينية»، وكذلك المفاوضات التي أجراها خلال تلك الفترة حول معاهدة السلام آنذاك. والأخضر الإبراهيمي بمسألة إنهاء الحرب الأهلية عبر اتفاق الطائف وهوكشتاين بملف ترسيم الحدود. أمّا لموفد الإليزيه و»الخماسية» الدوليّة جان إيف لودريان الذي بات اسمه رديفاً للملف الرئاسي، فنكهة خاصة، بغض النظر عما ستؤول إليه حركته من نتائج مرجوّة أم منتكسة.
أربعة عقود أمضاها متقلّباً بين المناصب الوزارية والنيابية. انتقل من «بوابة» الدفاع الفرنسية إلى «شرفة» الخارجية، وصولاً إلى «زواريب» الجمهورية اللبنانية. من «موبّخ» للطبقة السياسيّة وتهديدها بأنّ باريس ستتعامل بحزم مع الذين يعرقلون الإستحقاقات الدستورية، إلى طارح للمبادرات والأسماء الرئاسية، ليصبح جوّالاً ووسيطاً بين القوى السياسية وقد بلغت رحلاته إلى لبنان حتى الآن 4 زيارات… ليصير «ناظراً» للقرار 1701، متأبطاً العصا والجزرة.
نشيط وحذر، كتوم وودود. هذا ما يتركه لودريان من انطباع عام. لكن ماذا عن شخصيته وأساليبه الحوارية في لقاءاته داخل الغرف المغلقة؟ أي ديبلوماسية يعتمدها هذا السياسي المخضرم؟
يتميّز الدبلوماسيّون عادة بطباع باردة وهادئة. يخفون مشاعرهم. يعتمدون الرسائل المشفّرة وغير المباشرة وتدوير الزوايا. هل تنطبق هذه المواصفات على لودريان؟ لا. إذ يشير بعض من يلتقيه إلى أنّ الزائر الفرنسي حادّ الطباع. يدخل الإجتماعات متوتّراً. لا حراجة لديه من إبراز انفعالاته. يُحاور في المباشر. أكثر ما يستفزّه هو رفض الأطراف الأخرى للأفكار والمبادرات التي يعرضها… بدليل خروجه من اجتماعه أمس مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بعد أقل من عشر دقائق من بدئه بعدما أراد إنهاء النقاش في سرعة بعد الذي سمعه منه.
لا يتردد في إظهار امتعاضه الشخصي في ردوده على مضيفيه أو ضيوفه، وبنبرة فرنسية جافّة يسأل: ماذا تريديون؟ ما البديل لديكم؟ ما يعكس حماسة دائمة في المهمة الموكلة إليه، فلا يتعب ولا يكلّ.
لودريان «فجّ» واضح وصريح. ديبلوماسي بلا قفّازات، غير أنه يتمتّع بقدرة هائلة على النقاش. يحثّ الآخرين على «التفكير معاً» والدخول في حوار عميق لتفكيك المعضلة السياسية، يردفها بجولة أفق على الواقعين الدولي والإقليمي ومواقف الأطراف، لا سيّما المعنية بالملفّ الرئاسي.
لودريان «ذكيّ» لا يحبّ التلاعب به أو التذاكي عليه. يَعلم أن المهمّة الموكل بها صعبة، في بلد سريع العطب، حيث يُفضّل مسؤولوه كسر شوكة الدستور على كسر تعدياتهم بحقّه. يعرف أنّ مغامرته صعبة على متن سفينة وصفها بأنّها «تايتنك من دون أوركسترا… اللبنانيون في حالة إنكار تام وهم يغرقون، ولا توجد حتى موسيقى». لكنّه كما قال عنه أحد مستشاري ماكرون إنّه «يتمتع بخبرة قويّة في إدارة الأزمات». لم يتردّد «مهندس الدبلوماسية الفرنسية» الأسبق، في تأنيب المسؤولين اللبنانيين، واستخدام عبارات واضحة ومباشرة في توصيف الواقع، خصوصاً لدى زيارته لبنان في عهد حكومة حسّان دياب عام 2022، إذ دعا المسؤولين «إلى تجنّب الأوهام»، قائلاً مرّات عدّة: «ساعدوا أنفسكم لنساعدكم».
يُحضّر ملفّاته جيّداً. عالمٌ بأدقّ تفاصيل الحياة السياسية والإجتماعية اللبنانية وتركيباتها المعقّدة. في جعبته الحوارية كلام أو بالأحرى كلمتان «واحدة للخوريّة والثانية للرعيّة». وتوضح الأوساط المتابعة أنّ الرجل لا يُفشي «كلمة السرّ» أمام المشاركين في لقاءاته مع المسؤولين. بل يخبّئها ويتركها إلى «دردشة» ثنائية على انفراد أو خلال «نزهة سريعة» داخل أروقة هذا المقرّ أو ذاك.