كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
فتحت مدارس تعليم الطلاب السوريّين لفترة بعد الظهر أبوابها يوم الإثنين الماضي وما لبثت أعداد هؤلاء أن تخطّت، كنتيجة، الـ48% من مجمل الطلاب المسجّلين للعام الدراسي الحالي. الأسئلة كانت عديدة وهي تتناسل الآن. هل ما يحصل بريء أم نحن أمام تواطؤ ما داخلي – خارجي؟ وإن كان كذلك، هل يجري التمهيد لواقعٍ معيَّن؟ بغضّ النظر عن الخلفيات، الأرقام وسَير الأحداث لا تخطئ. والأحداث تعكس تسجيل آلاف السوريّين بلا أوراق ثبوتية، مستحصِلين على طلبات استرحام من وزارة التربية. فماذا بعد؟
التحذيرات من عملية الدمج تتزايد لأنها تتحوّل أمراً واقعاً يهدّد هويّة لبنان ومستقبله التربوي. فبعدما بلغ عدد الطلاب السوريّين في لبنان حوالى 267 ألف طالب العام الماضي، ها هو يتخطّى الـ500 ألف طالب حالياً من أصل حوالى مليون و70 ألف طالب لبناني. وبعد أن كان تسجيل هؤلاء محصوراً في دوامات بعد الظهر في المدارس الرسمية، فالسعي لدمجهم في دوامات قبل الظهر في المدارس الخاصة، بتشجيع من الجهات المانحة لتحقيق مزيد من «التطبيع»، أصبح ملحوظاً جداً. الطالب السوري يتربّع على مقاعد المدارس الخاصة بسبب الدعم المادي الذي يتلقّاه من الجهات تلك. أما نظيره اللبناني، فيواجه الخيارات الصعبة لعدم تمكّنه من تسديد الأقساط. سمّه أمراً واقعاً مترافقاً مع شروط المجتمع الدولي الواضحة: «لا مساعدات لأي مدرسة تمتنع عن استقبال طلاب سوريّين في صفوفها». فأعداد الطلاب غير الشرعيّين الداخلين إلى لبنان عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية إلى ازدياد. والولادات التي تحصل على الأراضي اللبنانية بلا أوراق ثبوتية تبلغ معدّلات خرافية. أضف إلى ذلك «جهوداً» ناشطة في مكان ما في وزارة التربية، وتفوح منها رائحة «سمسرة» طلبات الاسترحام. والمحصّلة واحدة: دائرة الخطر تضيق حول عنق مستقبل الطالب اللبناني.
وصفة دمج أو صراعات؟
البداية مع أمين عام المدارس الإنجيلية في لبنان، نبيل قسطه. ففي حديث لـ»نداء الوطن»، أكّد أن الواجب الإنساني والتربوي، كما الوطني والعربي، يفرض احتضان هؤلاء الطلاب في المدارس اللبنانية كون التعليم حقّاً لجميع الأطفال، خصوصاً أن لا ذنب لهم في الظروف التي دفعتهم خارج وطنهم. وأضاف: «على العكس، إن لم نقم بتعليمهم سنَراهم يتحوّلون إلى الشارع لينقلب الضرر على مجتمعنا الداخلي. غير أن المشكلة تكمن في التحدّيات التي يواجهها قطاعنا التربوي، لا سيّما في المدارس الرسمية. وإن كنّا غير قادرين على النهوض بواقع الطالب اللبناني، فكيف السبيل إلى ذلك مع الطالب السوري؟». ولفت قسطه إلى أن التوعية حيال ثقافة الدمج لم تكن بالمستوى المطلوب، لا بل هي أضاءت على السيّئات دون إظهار أي حسنات، ما حوّلها إلى ثقافة رفض وعدم قبول، أجّجها ازدياد هائل في أعداد الطلاب السوريّين والنساء الحوامل والولادات.
يصعب، إن لم يكن يستحيل، التوفيق بين ثقافة دقّ ناقوس خطر «التطبيع»، من جهة، وثقافة الدمج، من جهة أخرى، بغياب رؤية واضحة يتوافق عليها الجميع خدمةً للطلاب. وهذا ما يحوّل خطة الدمج إلى وصفة لصراعات ستؤدّي إلى خلافات أعمق لا سيّما بعد أن أصبحت أعداد الطلاب السوريّين واللبنانيّين شبه متقاربة. نسأل إن أمكن الحديث عن تواطؤ أو مؤامرة ما تقف وراء ذلك. ويجيب قسطه: «لا أؤمن بنظرية المؤامرة، غير أن التنسيق بين المنظمات المانحة والدول الأوروبية بات واضحاً من أجل إبقاء الطلاب السوريّين في لبنان. من الدعم المالي إلى البرامج الخاصة بهم، مروراً بربط دعم المدارس الرسمية بقبولهم. كلّ ذلك جزء من تركيبة لإدخالهم في نظامنا». وأوضح أن استقبال أي طالب بلا أوراق ثبوتية مخالف للقانون، مشدّداً على أن رابطة المدارس الإنجيلية لا تتهاون بما خصّ المستوى التأهيلي للطالب. أما ما يحصل في بعض المدارس الأخرى، فتلك حكاية مختلفة. «لسوء الحظ، لقد اعتدنا التحايل على القانون، لكن حان الوقت لندرك أن أي ربح نحصده على المدى القصير ستترتّب عليه خسائر فادحة مستقبلاً. الطالب اللبناني في خطر ويجب استدراك الأمر قبل حلول المصيبة الكبرى».
جشع ومافيات
من ناحيتها، لفتت مصادر تربوية مطّلعة لـ«نداء الوطن» إلى محاولات جدّية قامت بها الجهات المانحة العام الدراسي الماضي لدمج الطلاب السوريّين مع أقرانهم اللبنانيّين في الدوام النهاري، وبالتالي وضع حدّ لدوامات بعد الظهر. وفي حين تباينت الآراء داخل وزارة التربية حول ذلك المسعى، وبعد أن خرج إلى العلن، سارعت روابط المعلّمين (كما بعض مكاتب الأحزاب التربوية) لرفض الفكرة رفضاً قاطعاً، ما أدّى إلى تجميد المشروع، لا إلغاءه. وتقول المصادر: «رغم ذلك، تقوم الجهات المانحة بتعليم الطلاب السوريّين في المدارس الخاصة مسدّدةً أقساطهم. فبدلاً من أن تستوعبهم المدارس الرسمية، ها هم يُستقبلون في الخاصة منها. وهناك عشرات المدارس الخاصة التي كانت على وشك الإقفال، تعود وتنتعش بسبب تسجيل الطلاب السوريّين ضمن صفوفها، خصوصاً في عكار والبقاعَين الغربي والشمالي».
المصادر نفسها أشارت إلى مبالغ طائلة تقوم الجهات المانحة بدفعها إلى بعض المدارس الخاصة لتسهيلها عملية تسجيل الطلاب السوريّين في الدوام الصباحي. ومن بينها تلك المجانية، بعضها تجاري وبعضها الآخر أكاديمي، إضافة إلى مؤسسات تعليمية خاصة محترمة، تستفيد جميعها من التمويل «الفريش». وبخصوص فضيحة استقبال أعداد كبيرة من الطلاب ممّن لا يحملون أوراقاً ثبوتية، أسفت المصادر لوجود بعض الدكاكين التربوية (التجارية النزعة) التي تستقبل مّا هبّ ودبّ من هؤلاء وتسجّلهم بلا أوراق رسمية. «هناك مافيات وسماسرة يعملون على ترتيب الأوراق بمساعدة بعض موظفي وزارة التربية، ويتقدّمون بطلبات استرحام خاصة قبل الامتحانات الرسمية، على غرار ما يحصل في بعض الجامعات حالياً في ما يتعلّق بطلاب عراقيّين. لذا سنرى، للأسف، طلاباً سوريّين لا يحملون شهادة بكالوريا يتخرّجون بشهادة ماجستير من جامعات لبنانية».
الخطر الحقيقي
من المنظار القانوني، رأى المحامي الدكتور عبدو جميل غصوب في اتصال مع «نداء الوطن» أن الكثير من الطلاب السوريّين يعانون من صعوبة في الاستحصال على أوراقهم الثبوتية. فثمة ما ضاع منها بين ركام المنازل التي تهدّمت في سوريا، وثمة ما أكلته النيران. كذلك، فإن عدداً غير قليل من هؤلاء وُلدوا في لبنان ولم يتمكنوا من إنجاز معاملات التسجيل الرسمية في سوريا، ناهيك بالذين دخلوا خلسة أو بطرق غير شرعية. وأردف: «بالمبدأ، ليست المشكلة دخول هؤلاء إلى المدارس اللبنانية بلا أوراق ثبوتية، بقدر ما هي مشكلة فرض نوع من «التطبيع» غير القانوني للرعايا السوريّين مع المجتمع اللبناني. فالتقدّم لشهادة رسمية لا يستلزم الاستحصال على ما قبلها من شهادات. وإذا كان هذا ممكناً للطالب اللبناني، فما بالنا بالطالب الأجنبي؟».
الخطورة، بحسب غصوب، تكمن في التكاثر الملحوظ في الأعداد كما في مساعي «التطبيع» المعيشي والاجتماعي مع المجتمع اللبناني. فحتى لو حصل هؤلاء على إقامة دراسية وأتمّوا دراستهم الجامعية، حاصلين على شهادات من جامعات لبنانية، يبقى عملهم محصوراً ببعض الوظائف المحدّدة قانوناً. «لا يمكن للطلاب السوريّين أن يمارسوا مهنة الطب، مثلاً، أو المحاماة أو الهندسة في لبنان إذ لا يحقّ لهم الانتساب إلى النقابات أساساً. من هنا، لا خوف من دخولهم مدارس وجامعات لبنان. فالشهادة تبقى مجرّد شهادة. لكن الخطر الذي يتهدّدنا هو في ترسّخ فكرة «العيش معاً» بشكل غير منظّم، ما يؤذن ببداية مرحلة جديدة من تاريخ لبنان».
أرقام وشروط
بالأرقام، نقرأ تطوّر الأحداث في عودة سريعة إلى الوراء، وتحديداً إلى العام الدراسي 2021-2022. فقد قامت منظمة «اليونيسف» بدفع المبالغ السنوية التالية لوزارة التربية: 600 دولار عن كل تلميذ سوري يُسجَّل في فترة بعد الظهر؛ و363 دولاراً عن كل طالب سوري يُسجَّل في الفترة الصباحية. في وقت كانت الوزارة تتقاضى مبلغاً قيمته 160 دولاراً عن كل طالب لبناني في المدارس الرسمية.
الأرقام ما لبثت أن تراجعت بشكل ملحوظ خلال العام الدراسي الماضي، حيث اكتفت «اليونيسف» بدفع مبلغ 140 دولاراً عن كل طالب سوري في المدارس الرسمية، مهما كان الدوام التعليمي، مقابل 18 دولاراً فقط عن كل طالب لبناني. كما قامت حوالى 580 مدرسة رسمية بفتح أبوابها صيفاً بتمويل من المنظمة – وعبر الاتحاد الأوروبي – شرط قبول تلك المدارس بتسجيل الطلاب السوريين في صفوفها.
أما في ما يخصّ العام الدراسي الحالي، فما زال حجم المساعدات التي ستقدّمها الجهات المانحة غير واضح. إلّا أن ما يلفت هو تفلّت ظاهرة تسجيل آلاف الطلاب السوريّين ممّن لا يملكون أوراقاً ثبوتية في المدارس الخاصة، لا سيّما شمالاً وبقاعاً. ويُمنح هؤلاء وعوداً شبه مؤكّدة بالاستحصال على طلبات استرحام من وزارة التربية نهاية العام الدراسي، باعتبار أن الأوراق الصادرة من الأمم المتحدة تحلّ محلّ الهوية. الإثباتات ممّن تواصلنا معهم، وأكّدوا على صحّة المعلومات، كثيرة. كل ذلك وسط صمت مستغرب من قِبَل وزارة التربية، في وقت تتقاطع عدّة مصادر حول وجود شبكات داخلها تُتاجر في هذا الملف.
السيناريوهات تكثر والمخاوف كذلك. فأن تقتصر المساعي على دمج الطلاب السوريّين واللبنانيّين شيء. أما أن تتعدّى ذلك ليُحرم الطالب اللبناني من حقّه التعليمي مواجِهاً مصيراً ملبّداً بالغيوم – في حين تُشرَّع أبواب صفوف مدارس لبنان الرسمية والخاصة للطالب السوري – فشيء آخر تماماً.