كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
تؤشر المواقف المعلنة والمعلومات المسرّبة إلى إصرار دولي على تطبيق القرار 1701 الذي لم يُطبّق منذ إقراره، ما يعني انّ جنوب الليطاني سيكون منزوعاً من أي سلاح غير شرعي وغير دولي. والسؤال، كيف سيتصرّف «حزب الله» شمال الليطاني؟
نجح «حزب الله» في العام 2006 في تعطيل القرار 1701، وسيحاول هذه المرة أيضاً تجاوز عاصفة 7 تشرين من دون ان يدفع ثمن الالتزام بهذا القرار الذي يُبعده عن الحدود ويُفقده مبرِّر وجوده، خصوصا في ظلّ السعي لمعالجة النقاط الحدودية التي ما زالت مدار نزاع، وفي طليعتها مزارع شبعا وكفر شوبا والغجر.
ويصعب التكهُّن في كيفية تطور مسار الأمور، فهل تتجِّه إلى مواجهة عسكرية تسعى من خلالها إسرائيل إلى إبعاد «حزب الله» بالقوة إلى شمال الليطاني، أم انّ المفاوضات الدائرة ستنجح في تطبيق القرار 1701 برعاية أميركية وإيرانية؟ وهل يراهن الحزب على الوقت لإعادة تفريغ القرار من مضمونه على غرار ما قام به سابقاً؟ وهل سينجح في الالتفاف مجدداً على هذا القرار، خصوصاً في ظلّ تشدُّد تل أبيب وتوصيفها لمعركتها بأنّها حرب وجود لا حدود؟ وهل سينجح الحزب أيضاً في الحفاظ على دوره للمرّة الثالثة بعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000، الذي كان يفترض انتهاء دوره العسكري، وحرب تموز 2006 وصدور القرار 1701 الذي قضى عملياً بإقفال جبهة الجنوب ونزع اي سلاح خارج الشرعية؟
لا شك انّ «حزب الله» سيحاول التفلُّت من الضوابط الدولية على غرار تفلُّته في العامين 2000 و 2006، ولكن العنصر المتحوِّل هذه المرّة هو إسرائيل وليس القوى السياسية في لبنان التي تطالب بالالتزام بالدستور والقرارات الدولية، بمعنى انّ الحزب باستطاعته عدم الردّ على مطالبات القوى السيادية، وهذا ما هو حاصل، ولكنه لا يستطيع عدم الردّ على الشروط الإسرائيلية-الدولية التي وضعته بين خيارين لا ثالث لهما: التطبيق الفعلي للقرار 1701 بالوسائل الديبلوماسية أم تطبيقه بالوسائل العسكرية، وسيصعب عليه هذه المرّة تكرار سيناريوهي 2000 و 2006.
وقد شاءت الأقدار ان تضعه «حماس» أمام وضع مقفل وصعب، فلولا عملية «طوفان الأقصى» لما كان مطالباً دولياً بالتراجع عن دور استراتيجي يرتبط بتاريخ نشأته، حيث وضعته حرب 7 تشرين أمام خياري الحرب، وهو خيار كارثي وتدميري عليه وعلى لبنان، أو التنازل والتراجع من دون حرب، وفي الحالتين يقف الحزب أمام مأزق استراتيجي أوصلته إليه «حماس» ومن الصعب عليه الخروج منه ويؤدي إلى انتزاع ورقة المواجهة مع إسرائيل.
فقبل عملية «طوفان الأقصى» لم يكن مطروحاً بالنسبة لتل أبيب إبعاد «حزب الله» إلى شمال الليطاني، لا بل مفاوضات الترسيم رسخّت الانطباع المكوّن لديها بأنّ الحزب تخلّى ضمناً عن مقولة «رمي إسرائيل في البحر»، وانّ أولويته السيطرة على لبنان من خلال ربط النزاع معها، الأمر الذي لا يزعجها إطلاقاً ولا يعنيها إذا احترم الاستقرار على جانبي الحدود على غرار النظام السوري، وقد بدا لتل أبيب انّ الحركة والحزب تطبّعا مع الأمر الواقع، وهذا ما يفسِّر الاسترخاء الأمني والعسكري غير المسبوق في تاريخ دولة إسرائيل، ولكن عملية 7 تشرين بدّدت هذا الانطباع ورسخّت صورة الإسلام السياسي الذي يستحيل التطبيع معه.
وبعد ان أدّت الأحداث إلى ما أدّت إليه، وبمعزل عن كيفية تطوّر مسار الأمور جنوبي الليطاني الذي يتجِّه مبدئياً إلى التدويل، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه يتعلّق بالمسار السياسي للبلد شمال الليطاني: فهل يرتد «حزب الله» إلى الداخل تعويضاً عن خسارته الخارجية، أم يفتح باب التسوية التي لم تبصر النور لا بعد انتهاء الحرب اللبنانية، ولا بعد الخروج الإسرائيلي، ولا بعد الخروج السوري، ولا بعد حرب تموز؟
الآمال بتسوية لبنانية تاريخية تُنهي الانقسام الكبير وتعيد الاعتبار لدور الدولة شبه معدومة لاعتبارين أساسيين:
الاعتبار الأول يتعلّق بإيران ومشروعها الإسلامي الثوري العنفي التوسعي، وما لم تبدِّل الثورة الإيرانية في مشروعها العسكري التمدُّدي، لن يعرف لبنان الراحة والاستقرار والاطمئنان والأمن والأمان، فهذا المشروع يستوطن لبنان منذ ثمانينات القرن الماضي، وأصبح متجذراً فيه، ويستحيل الوصول إلى تسوية لبنانية على معنى لبنان ودوره قبل الاتفاق الدولي والإقليمي مع إيران على تغيير دورها من عسكري إلى سياسي.
وعلى رغم انّ ضرب الأذرع الإيرانية يؤدي إلى إضعاف الدور الإيراني، ولكن هذا الإضعاف يبقى مؤقتاً طالما انّ المحرِّك الأساسي المولِّد للثورة المسلّحة ما زال يعمل بنشاطه المعتاد وتصميمه الثابت، وقد تنجح إسرائيل مثلاً بالقضاء على القدرات القتالية لحركة «حماس» في غزة، ولكن إيران ستضع كل إمكاناتها المالية وخبراتها الأمنية والعسكرية من أجل إعادة تأسيس خلايا جديدة للحركة او لغيرها، وبالتالي سياسة مواجهة الأذرع هي سياسة قصيرة المدى، فيما العلاج الأساسي يجب ان يكون مع إيران، وما لم تُعالج المشكلة معها فيعني انّ أزمات المنطقة مستمرة وفي طليعتها القضيتين الفلسطينية واللبنانية.
الاعتبار الثاني يرتبط بـ»حزب الله» الذي من المستحيل ان يسلِّم سلاحه ما لم تطلب منه إيران ذلك، كما يستحيل ان يتخلّى عن دوره الإقليمي من دون طلب إيراني، وبالتالي من الخطأ مجرّد التفكير بأي تسوية بعيدة المدى معه تتعلّق بتكريس دور الدولة المغيّب منذ سبعينات القرن الماضي إلى اليوم، حيث انّ الاتفاق مع الحزب سيبقى ضمن حدود الاستحقاقات الدستورية واليوميات السياسية، ولكن لا فرصة لإبرام تسوية تاريخية تُنهي الأزمة اللبنانية، لأنّ الحزب يشكّل جزءاً لا يتجزأ من الثورة الإيرانية التي تتناقض مفاهيمها مع مفاهيم الدول وحدودها ودساتيرها، ولذلك، يستحيل إبرام تسوية حول نهائية لبنان مع حزب لا يؤمن بحدود، او تسوية حول دور الدولة مع حزب دوره الأساسي توسيع رقعة حزب الثورة الإيرانية على حساب الدولة اللبنانية، وإلخ…
وما تقدّم يعني انّ المواجهة السياسية بعد انتهاء حرب غزة ستتواصل فصولاً، وانّ فرصة التسوية التي لم تتحقّق منذ 33 عاماً ما زالت بعيدة المنال والتحقُّق. وفي حال خرجت «حماس» من غزة، وتراجع «حزب الله» إلى شمال الليطاني، فيعني انّ محور الممانعة تكبّد خسارة استراتيجية من خلال فقدانه ورقتين دفعة واحدة، فضلاً عن انّ سردية الحزب عن الدفاع عن لبنان وتوازن الرعب ستسقط تلقائياً، لأنّ تراجعه إلى شمال الليطاني تنفيذاً للقرار 1701 يعني انتهاء دوره في مواجهة إسرائيل، وستعود الحدود للمرّة الأولى أقلّه منذ انتهاء الحرب اللبنانية إلى الشرعية المحلية والدولية.
وعلى رغم انّ حجج «حزب الله» في مواجهة إسرائيل ستسقط موضوعياً بعد خروجه من جنوبي الليطاني، إلاّ انّه سيصرّ على مواصلة الأدبيات نفسها، ولن يستفيد من التحوّل الإقليمي الاستراتيجي من أجل مدّ اليد إلى شركائه في الوطن تحقيقاً لمصالحة كان يجب ان تتمّ مع خروج الجيش السوري من لبنان، ولكنها لم تحصل بسبب انّ الحزب واصل المهمّة نفسها التي كان يتولاّها النظام السوري، وهي إبقاء لبنان ساحة نفوذ لمحور الممانعة، وبالتوازي مع خطابه الممانع نفسه، سيواصل سعيه إلى وضع يده على الدولة اللبنانية، ولا بل سيسعى إلى تعويض خسارته الإقليمية بمكاسب سلطوية.
وما أن انتهت حرب تموز 2006 حتى ارتد «حزب الله» على الداخل في انتفاضة على انتفاضة 14 آذار، وشهدت كل الأساليب الأمنية والتعطيلية والتخوينية وصولاً إلى استخدام سلاحه في 7 أيار لإنهاء مفاعيل ثورة الأرز، وبالتالي من المتوقّع، ويا للأسف، ان يسلك المسار نفسه بعد انتهاء حرب غزة، وذلك بدلاً من الاتعاظ من تجارب الماضي التي أوصلت لبنان إلى الانهيار والفشل، ومن الخطيئة عدم الاستفادة من الفرصة الدولية لإعادة ترميم الجسم اللبناني المنقسم والمتصدِّع.
فما بعد حرب غزة سيعيد «حزب الله» إحياء سيناريو ما بعد حرب تموز بهدف إثارة الغبار السياسي على تنازله الاستراتيجي في المواجهة مع إسرائيل وسعيه لوضع اليد بالكامل على الدولة اللبنانية. والعنوان الذي سيتصدّر معركته، تحويل الدولة إلى ممانعة بحجة قطع الطريق على هدنة وتطبيع. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف ستواجه القوى السيادية في المرحلة المقبلة، هل من خلال المزيد من الشيء نفسه، أم بتغيير قواعد الاشتباك السياسي شمال الليطاني بعد تغيير قواعد الاشتباك العسكري جنوبي الليطاني؟