كتب يوسف دياب في “الشرق الأوسط”:
من المبكر إحصاء الأضرار التي خلّفها القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان، غير أن التقارير عن استخدام الجيش الإسرائيلي أسلحة محرّمة دولياً لا سيّما القذائف الفسفورية الحارقة، ذات التأثير البيئي والصحّي، بدأت تتكشّف تداعياتها رغم استمرار القصف المتبادل بين إسرائيل و«حزب الله»، إذ كشفت المعطيات الأولية، أن هذه القنابل أحرقت منازل بكاملها، وأتلفت حقولاً زراعيّة جعلتها غير صالحة للاستثمار كما عرّضت المياه الجوفية للتلوّث.
الاستخدام «غير المبرر» لهذه الذخيرة المحرّمة دولياً، أثار قلق الولايات المتحدة، فأعرب منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي عن «قلق واشنطن إزاء المعلومات المتعلقة باستخدام إسرائيل لذخائر الفسفور الأبيض الأميركية في لبنان». وقال كيربي: «لقد رأينا هذه التقارير، نحن بالتأكيد قلقون بشأنها، وسنطرح أسئلة حولها لمحاولة معرفة مزيد حول ما يحدث». وذكّر المسؤول الأميركي بأن «الذخيرة التي تحتوي على الفسفور الأبيض لها غرض عسكري مشروع، وتتوقع الولايات المتحدة في جميع الحالات استخدامها لأغراض مشروعة ووفقاً لقوانين النزاع المسلح».
تحذير كيربي يأتي في سياق رفع المسؤولية عن الإدارة الأميركية، وتحذير تلّ أبيب من إمكانية مقاضاتها دولياً، غير أن إمكانية الملاحقة القضائية غير متاحة أمام المحاكم المختصّة بجرائم الحرب، إذ ذكّر وزير العدل اللبناني السابق إبراهيم نجّار، أن إسرائيل «غير منضوية في أي مؤسسة قانونية أو قضائية دولية، خصوصاً محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية، حتى لا تكون عرضة للمقاضاة». لكنّه أشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الدولة العبرية «خرقت الاتفاقات الدولية التي تمنع استخدام القنابل الفسفورية». ودعا نجّار وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب إلى «توجيه رسالة عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لمطالبته بإرسال بعثة تقصّي حقائق تابعة للأمم المتحدة، والكشف على الأراضي التي استهدفتها إسرائيل بالقنابل الفسفورية وتثبيت خرق إسرائيل للاتفاقات الدولية»، لافتاً إلى أن «إرسال بعثة دولية لتقصّي الحقائق لا يحتاج لقرار من مجلس الأمن، وليس ثمّة خشية من استخدام أي دولة حقّ (الفيتو) لإبطاله».
ومن جهتها، كشفت منظمة «هيومن رايتس ووتش» عن استخدام إسرائيل الفسفور الأبيض في غزة ولبنان، وحذّرت من عواقب استخدام هذه الذخائر التي تعرض المدنيين لخطر الإصابة بجروح خطيرة وطويلة الأمد. وقال الوزير إبراهيم نجّار وهو خبير في القانون الدولي: «إذا ثبت أن إسرائيل خرقت القانون الدولي، فإنه يمكن للبنان أن يتقدّم بشكوى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإدانتها على هذه الجريمة، بحيث تلاحق قضائياً أمام الجمعية العامة، لأنها قد ارتكبت جريمة ضدّ الإنسانية، وانتهكت قواعد الحرب المتعارف عليها عالمياً، وتلاحق سياسياً أمام مجلس الأمن الدولي». وتطرّق نجّار إلى سابقة حصلت في مقاضاة إسرائيل، وأضاف: «في عام 2009 وبصفتي وزيراً للعدل يومذاك، تقدمت بدعوى أمام الأمم المتحدة ضدّ إسرائيل، رداً على قصفها معمل الجيّة الكهربائي والتسبب بأضرار بيئية نتيجة تسرّب النفط، وفي عام 2014 ربحنا الدعوى، وحكم على إسرائيل بدفع تعويض للبنان بقيمة 850 مليون دولار».
إفلات تل أبيب من المحاكم الدولية لا يعفي قادتها السياسيين والعسكريين من تبعات هذه الجرائم لدى بعض الدول، ولفت الوزير نجّار إلى أن «هناك ما يسمّى (الاختصاص العالمي للقضاء الوطني)، الذي تعتمده دول أوروبية لملاحقة المسؤولين عن جرائم خطيرة»، مذكراً بأن بلجيكا «حرّكت دعوى قضائية ضدّ (وزير الدفاع الإسرائيلي السابق) آرييل شارون بسبب مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها إبان اجتياح بيروت في عام 1982 لمجرّد إعلانه عن زيارة سيقوم بها إلى بروكسل».
إجراءات الدولة اللبنانية لا ترقى إلى مستوى الخطر الذي يهدد البلاد نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، خصوصاً أن المراجع المختصّة لم تتخذ حتى الآن أي خطوة قانونية بهذا الصدد، وقال نجّار: «لو كنت وزيراً للخارجية اللبنانية، لطلبت فوراً من وزير العدل أن يرسل خبراء لبنانيين ودوليين متخصصين بعلم الأسلحة وجرائم الحرب برفقة المدعي العام التمييزي لمعاينة الأرض، وأخذ عينات قبل زوال الرواسب الحارقة»، مشدداً على «ضرورة أن يثبت لبنان هذه الوقائع قبل زوال معالمها، وليكون لديه ملفّ قوي لا يقبل الدحض أو التشكيك».
وتعدّ القنابل الفسفورية محرمة دولياً بموجب اتفاقية جنيف لعام 1980 التي نصّت على «تحريم استخدام الفسفور الأبيض كسلاح حارق ضد البشر والبيئة». واستخدم الجيش الإسرائيلي هذه القذائف في بلدات الماري والمجيدية والضهيرة في جنوب لبنان، إلّا أن الأخيرة كانت أكثر تضرراً من جرّائها، وأوضح رئيس بلدية الضهيرة الشيخ عبد الله الغريب، أن «الأضرار التي خلفتها القذائف الفسفورية على البلدة كبيرة، ولم يجر إحصاؤها بعد». لكنّه أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «منازل بكاملها احترقت وتحوّل محتواها إلى رماد، وباتت غير صالحة للسكن، لكنّ الطامة الكبرى تكمن في احتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية وإتلاف موسم الزيتون بكامله». وقال: «لا تزال هناك كتل ترابية خلفتها القذائف تعاود الاشتعال بمجرد تحريكها أو لمسها، وهذه الكتل حولت مساحات شاسعة من الأراضي غير قابلة للزراعة أو حتى الدخول إليها، عدا عمّا تشكله من خطر على المياه الجوفية».
وعمّا إذا كانت أجهزة الدولة عاينت الأضرار التي خلّفها القصف، وأعطت إرشادات لكيفية التعامل مع آثار القذائف الفسفورية، أشار رئيس بلدية الضهيرة، إلى أن «الدولة غير موجودة أصلاً لنتواصل معها». وتابع قائلاً: «نحن نواجه قدرنا، لكن هناك عناصر من فوج الهندسة في الجيش، أجروا كشفاً على مساحات من الأراضي التي اشتعلت بالقذائف الفسفورية خلال الهدنة القصيرة، وعملوا على نقل بعض القذائف التي لم تنفجر»، لافتاً إلى أن «الوضع يتطلّب حضور خبراء متخصصين في العلوم الكيميائية للكشف وتحديد المخاطر المترتبة على هذه الأسلحة وإعطاء التوجيهات للناس لكفية التعامل معها، وما إذا كانت الأراضي قابلة لاحقاً للاستصلاح أم لا».