IMLebanon

إنتاجية الهيئات الرقابية إلى تصاعد

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

كشفت الهيئات الرقابية في سنة 2023، عن حيوية لافتة في تعقّب ملفات التلزيمات، عكست مساراً تصاعدياً بإنتاجيتها بظل حالة الشلل العام التي سادت في معظم مؤسسات الدولة. فعزّزت هذه الحيوية الآمال بإعادة تصويب بوصلة بعض التلزيمات المعقودة على المستوى الرسمي ولمنع تكريس واقع هدر أموال الدولة السائد منذ سنوات طويلة.

بحسب مسؤول رفيع في ديوان المحاسبة، فإنّ دينامية الهيئات الرقابية في العام 2023 كانت نتيجة تراكمية للملفات التي فتحت منذ بدء الأزمة اللبنانية وما قبلها، وقد بدأت نتائجها تظهر في السنة الأخيرة، ويفترض أن تتظهّر بطريقة أفضل في العام 2024. وإذ شبّه دور الهيئات الرقابية في هذا الإطار بمكابح السيارة التي ستمنع الدولة من السقوط في المهوار، لفت إلى كون الإصلاح بات مطلب الجهات الدولية المانحة وشرطها لمساعدة لبنان في الخروج من أزمته المالية، واعتبر أنّ عمل بعض أجهزة الرقابة كان سيتحول مستحيلاً لولا الدعم الدولي، حتى المالي، لهذه الهيئات. وهكذا إذاً، خضعت السلطة «مكرهة» لأحكام الهيئات الرقابية، بمحاولتها لتبييض صفحتها المالية أمام المجتمع الدولي وهيئاته المانحة. إلا أن هذا لا يعني أن محاولاتها للإلتفاف على قرارات أجهزة الرقابة وتوصياتها في العام 2023، توقفت، بل سعت جاهدة لإبعاد كأس الرقابة والمحاسبة عنها، ولو في ظل تكامل الأدوار بين هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة من جهة، وبينها وبين اللجان النيابية وحتى الإعلام أحياناً. في المقابل، أظهر التصدّي المشترك لتمرير بعض الصفقات، فعالية الجهود المتراكمة في كشف شبهات السمسرات وعرقلتها، وخصوصاً عندما جاء التصدّي معزّزاً بمعلومات شفافة حول بعض الصفقات، بذلت الهيئات الرقابية جهوداً كثيفة للوصول إليها، وبنت قراراتها حيالها بالإستناد إلى القانون ومبادئه. المجريات التي رافقت إنكشاف صفقة تلزيم تشييد صالة جديدة للمسافرين في مطار رفيق الحريري الدولي، أو ما عرف بالترمينال 2، كانت أول نموذج ناجح في هذا التصدّي. اذ أجهِضت الصفقة في مهدها، بعدما رضخ وزير الأشغال لضغوطات إعلامية وسياسية، عزّز موقفها الرأي الإستشاري الذي صدر عن ديوان المحاسبة حول هذا الملف، وقد اعتبر عقد التلزيم بالتراضي باطلاً بطلاناً مطلقاً، موصياً بوجوب توضيح النصوص القانونيّة ووضع منظومة قانونيّة مُتكاملة تتعلّق بأصول استثمار وإشغال المطارات عوضاً عن ورودها في جداول مُلحقة بموازنات. إلا أنّ ما لفت في عمل الهيئات الرقابية، كان ذهابها إلى أبعد من التدقيق بالتلزيمات الجديدة، وتسليطها الضوء على مكامن الهدر في ملفات إعتقد المعنيون بسمسراتها أنها طويت بمرور الزمن. وهذا ما عزّز الآمال، وحتى التوقعات، بمحاسبة المسؤولين عن إرتكابات سابقة، هدرت ما هدرته من مال عام، ولعبت دوراً في الإنهيار المالي الذي إنكشفت تداعياته منذ سنة 2019 وحتى اليوم، ما سمح بالتالي بالحديث عن خريطة طريق تحدد الأطر والمعايير القانونية لإنجاز الصفقات اللاحقة.

المضبطة العدلية حول مبنيي «تاتش»

تقرير ديوان المحاسبة حول صفقة إستئجار مبنيي قصابيان في الشياح ومن ثم صفقتي إستئجار وتملّك مبنى الباشورة، لمصلحة شركة الإتصالات «تاتش» شكّل واحداً من تلك الملفات المزمنة التي قاربها الديوان بكل تفاصيلها. وقد حدد المسؤوليات بوضوح، مصدراً قراراته الإتهامية حيال سبعة وزراء تعاقبوا على هذا الملف منذ سنة 2011 إلى جانب متورّطين آخرين. وبالتالي اعتبر تقرير الديوان بمثابة «مضبطة إتهامية» أحيلت إلى النيابة العامة لديوان المحاسبة، التي يفترض أن تصدر قرار الإدانة النهائي فيه مطلع العام المقبل، بعد تلقيها كافة الدفوعات من الوزراء الذين شملتهم الإتهامات.

ملف تلزيم «إنكربت»

بالمقابل، إتخذ التدقيق في ملف شركة «إنكربت» المزمن، بعداً أبعد من المحاسبة المالية، عبر إحالته من النيابة العامة في الديوان إلى القضاء الجزائي، علماً أنّ قرارات ديوان المحاسبة، لا سيما آخرها الذي صدر شهر ايلول 2023، شكّل المنطلق لمتابعة حثيثة من قبل لجنة الأشغال النيابية، ففتحت الملف على مصراعيه عبر لجنة لتقصي الحقائق، باشرت ببحث معمق حول مجريات هذه الصفقة، بدءاً من مرحلة إطلاق عملية تلزيم الخدمة لشركة «إنكربت» وحتى ما بعد إعتكافها عن العمل، كوسيلة إبتزاز لجأت إليها للحصول على مكتسبات مالية من الدولة.

ملف البريد وإستنزاف الجهود

إستنزف ملف تلزيم قطاع البريد، عبر ثلاث مزايدات بدفاتر شروط متفاوتة في المقابل، جزءاً كبيراً من جهود ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام. ومع ذلك إنتهت النقاشات المطولة حوله إلى إخضاع وزارة الإتصالات لقرار الديوان بإلغاء نتائج المناقصة الأخيرة، مع تسجيل تحفّظ نيابي لجهة تحديد موضوع المزايدة التي طلبت الحكومة إجراءها.

إلا أن النقاشات الطويلة التي إستغرقها هذا الملف، ظهّرت المواقف المتفاوتة تجاه عمل الهيئات الرقابية، بين طرف يصرّ على تطبيق المبادئ والمعايير القانونية في تنفيذ التلزيمات وترسية العقود، وآخر حاول ولا يزال التملّص من هذه المعايير تحت ذريعة حالة الطوارئ والظرف الإستثنائي. وقد وجد البعض في حرب غزة وإمكانية تمدّدها إلى لبنان فرصة لتحجيم دور الهيئات بذريعة حالة الطوارئ، الأمر الذي أعاقه قانون الشراء نفسه وتعديلاته التي وضعت لتسهيل تطبيقه وخصوصاً في التلزيمات التي تستدعي تدخل الهيئات الإغاثية.

ملف إستيراد الـ»فيول أويل»

تخطّي وزارة الطاقة توصيات هيئات الشراء العام في صفقة شراء كميات من مادتي الفيول والغاز أويل الأخيرة، كانت واحدة من الصفقات التي أبرزت تلك النيات بتقليص دور الهيئات الرقابية، إلا أن تردّداتها المعاكسة على هيئة الشراء العام، كانت بفتح ملفات جميع التلزيمات التي جرت بعد تطبيق قانون الشراء العام على تقصيات أوسع، أكدت هيئة الشراء العام أنها باشرت بها، ويفترض أن تظهر نتائجها في العام المقبل.

تلزيمات خدمات المطار

كان حضور الهيئات الرقابية خلال سنة 2023 لافتاً في أكثر من ملف تلزيم للخدمات في مطار رفيق الحريري الدولي، بعضها صدرت فيه القرارات وبعضها لا يزال قيد الدرس. أما أبرز التقارير التي صدرت حول الصفقات المعقودة في المطار، فكان ما يتعلق منها بإلتزام شركة «نيفادا» حول إشغال وإدارة واستثمار مطاعم وكافيتريات في مبنى الركاب في مطار بيروت الدولي، بعدما أثار هذا الملف جدلاً لجهة مدى تقيد المتعهد بدفتر الشروط. الأمر الذي صوّبته هيئة الشراء العام، «تحت طائلة الإنهاء المبكر لحق الإستثمار».

هذا بالإضافة إلى إصدارها قراراً قضى بإلغاء نتائج صفقة تلزيم إستثمار وتشغيل مواقف السيارات في المطار، وذلك بعد شهر من ترسية العقد على شركة POS، نتيجة لما رصدته من تجاوزات عديدة في عملية التلزيم.

ملفات قيد الدرس

وفيما تتحدث مصادر هيئة الشراء العام عن توجّهها لإصدار تقرير في الفصل الأول من العام 2024 عن مجمل الملفات التي درستها، وتلك التي لا تزال قيد المتابعة، ولتوثيق حركتها العامة خلال عام ونصف من تطبيق قانون الشراء العام، فإنّ العام 2024 يفترض أن ينطلق بالنسبة لديوان المحاسبة، بإعلان نتائج سلسلة قرارات إتخذتها، وأبرزها ما يتعلق بتلزيم خدمة الـA2P من قبل الشركة التي رفضتها هيئة الشراء العام سابقاً.

ولكن إذا كان عدد الصفقات التي رفضت، أو التي أعيدت إلى الإدارة لتصويب دفاتر شروطها، أكّد إصرار الهيئات الرقابية على تصويب بوصلة التلزيمات، بما يضمن الحفاظ على موارد الدولة ومقدراتها المتبقية، فإن ذرائع السلطة وإداراتها لتجاوز قرارات الهيئات وتوصياتها، شكّل تحدياً دائماً أمامها، هذا بمقابل ما لمسته هذه الهيئات وفقاً لأوساطها «من عدم جدّية السلطة في دعم دورها وجهودها الإصلاحية فعلياً».

ضعف الإمكانيات المالية واللوجستية، وعدم السعي لتحسينها كان أحد مؤشرات غياب هذا الدعم. الأمر الذي يشير اليه مصدر في ديوان المحاسبة تحديداً، متحدثاً عن مهزلة الميزانية المخصصة للديوان، والتي تجعل الإدارة في حالة إستنزاف للوقت والجهد من أجل تأمين البديهيات.

أما التحدي الأبرز أمام هيئة الشراء وفقاً لمصادرها فبقي في عدم إقرار النظام الداخلي ونظام المستخدمين وأنظمة العاملين لديها، بالرغم من إرسالها إلى المراجع المختصة منذ أكثر من عام، وبالتالي ضعف القدرات البشرية لمتابعة التدقيق بالملفات التي يفترض بالهيئة أن تدقّق فيها، علماً أن هيئة الشراء العام وفقاً لمصادرها لن تستمر في مراقبة هذا الأمر، وتعتبر أن فترة السنة والنصف التي مرّت كانت فترة سماح كافية للمراجع المعنية لإقرار أنظمة الهيئة. وبالتالي ترى المصادر أنّ أي تجاوز لهذه الفترة، سيعتبر بأنه محاولة تعطيل للمهام، سواء أكان ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود.