كتب غسان حاصباني في “نداء الوطن”:
من كييف إلى باب المندب، خط مستقيم طوله 4.400 كلم، يمر في لبنان وغزة، ويشكل قطر دائرة تصل إلى ايران شرقاً، وإيطاليا غرباً، وطرف شبه الجزيرة جنوباً وحدود روسيا شمالاً.
هذه الدائرة تغلي بالحركة العسكرية والمواجهات. قواعد عسكرية وأساطيل في المتوسط من إيطاليا إلى قبرص وجنوب تركيا، وحضور عسكري كثيف في المتوسط واشتباكات عسكرية في باب المندب وغزة ولبنان واوكرانيا. طيران رصد واستطلاع أميركي يجوب شرق البحر المتوسط بشكل شبه مستمر، وطائرات نقل لحلف شمال الأطلسي تحلق بشكل دائم بين القواعد العسكرية ومطارات المنطقة.
هذه هي الصورة التي نستقبل فيها عام 2024، وعلى ما يبدو أنّها لن تتغير في القريب المنظور.
أوروبا مفصولة عن الشرق بهذا الخط، الذي يفصل مناطق التأثير والنفوذ إلى شطرين، الشطر الغربي الذي تسيطر عليه قوى الغرب، والشطر الشرقي الذي تؤثر عليه روسيا شمالاً وتقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، والجزء الأوسط منه الذي تسيطر عليه ايران ويشمل العراق وسوريا ولبنان إضافة إلى جناح منفصل في اليمن، وجزء جنوبي يتمثل في دول الخليج.
مثلث التأثير الإيراني يشمل باب المندب ومضيق هرمز على مدخل الخليج العربي وشرق المتوسط (لبنان) وهو بمثابة مثلث يحاصر نقاط التبادل التجاري الحرجة بين الشرق والغرب، ما يعطي ايران قدرة على التأثير في الاقتصاد العالمي عامة والأوروبي خاصة. ويصبح التأثير الإيراني أقوى في حالتين:
1- إذا استمرّ الحصار الروسي على أوروبا من خلال التوقف عن بيع الغاز.
2- إذا لم يكن هناك سلام في الشرق الأوسط يتيح فتح طرق إمداد من الشرق إلى الغرب تتفادى نقاط النفوذ الإيراني، أي مضيق هرمز، باب المندب وخط سوريا/ لبنان.
وأتت عملية طوفان الأقصى لتجعل من العاملين أكثر تأثيراً. فتضاعف التأثير الاقتصادي للحصار الروسي مع حصار تجاري في البحر الأحمر، وحرفت الأنظار عن أوكرانيا، كما زاد تأثير الضغط الإيراني عبر الحوثيين على حركة التجارة نحو الغرب عبر باب المندب.
قد تتقاطع المصالح الروسية الإيرانية في مكان ما، لكن المنافسة في ما بينهما على من يمكنه أن يحصّل نقاطاً أكثر جراء الضغط على الغرب ما زالت قائمة وهي تكبر. لكن هناك خط تماس بين القوتين في سوريا بدأ يظهر التنافس حوله جلياً حيث من مصلحة ايران تمرير انابيب الغاز إلى أوروبا عبر سوريا كبديل للغاز الروسي، ومن مصلحة روسيا منع ذلك بالتعاون مع النظام السوري. فهل ينسحب هذا التنافس على الوضع في لبنان؟
للأسف، يقع لبنان تماماً وسط دائرة الاشتباك، على خط التماس الأفقي الروسي الإيراني، وخط التماس العمودي الشرقي الغربي. بدأنا نتأثر بالوضع الاقتصادي العالمي من خلال غلاء السلع نتيجة الحصار على أوروبا والغرب، وكنا قد تأثرنا سابقاً بالحصار الشرقي بعد قطع حركة النقل التجاري البري عبر سوريا خلال العقد الماضي، كما بدأنا نشعر بالأثر الاقتصادي المترتب على الاشتباكات في الجنوب. وجود لبنان في عين العاصفة التي تشبه أحداث سبعينات القرن الماضي، لا ينذر بالخير. فقد يتأثر لبنان بشكل مباشر وعنيف جراء حركة الخطوط الزلزالية القائمة.
وإذ من المستبعد أن تنشأ مواجهة غربية روسية عسكرية لفك الحصار، كون روسيا دولة نووية، قد تنشأ مواجهة غربية إيرانية غير مباشرة عبر الأدوات العسكرية في المنطقة، تشمل الجيش الاسرائيلي و»حزب الله» والحوثيين مع تدخل غربي مباشر وانتقائي.
في حال حصل ذلك وتوسع الاشتباك بهدف فك الحصار الجنوبي وفرض معادلة جديدة، سيكون لبنان في قلب الحدث ما سيؤدي إلى انهيار ما تبقى منه اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وبنيوياً.
وفي حال تحرك الاشتباك الروسي الإيراني غير المباشر في سوريا، فذلك قد ينسحب على لبنان حيث يمكن أن نرى اشتباكاً بين قوى سياسية قريبة من النظام السوري تقليدياً، والقوى المدعومة ايرانياً.
في كافة السيناريوات، يبقى الأفضل هو التهدئة في المنطقة. وفي هذه الحال، نبقى على ما نحن عليه في حالة ستاتيكو. لذلك، وفي كل السيناريوات، علينا تحصين الداخل اللبناني لتحمل الحركة الزلزالية في المنطقة بدل الدخول فيها. ذلك يتطلب استقراراً في المؤسسات الدستورية، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية يناسب المرحلة، وتشكيل حكومة مكتملة المواصفات تحظى بثقة المجلس النيابي، تطبيق القرارات الدولية، تمكين الجيش اللبناني والقوى الأمنية من ضبط الحدود والوضع الداخلي والشروع بعملية اصلاحية للوضع المالي والاقتصادي والادارة العامة بالحد الادنى المطلوب.
فلا يمكن للبنان أن يواجه المرحلة المقبلة من دون حكومة قادرة على متابعة شؤون المواطنين والتواصل مع الخارج للدفاع عن لبنان في المحافل الدولية بشكل فعال، ومن دون رئيس للجمهورية يمثل لبنان بشكل مؤثر في المؤتمرات التي قد تعقد، وجيش ينتشر على كامل الأراضي اللبنانية ويضبط الحدود لتفادي الاشتباكات الداخلية والمستوردة، واستقرار معقول في سعر الصرف والاقتصاد يتفادى الانهيار الاجتماعي التام. فهل سيكون هناك ما يكفي من الحس الوطني والمسؤولية للقيام بذلك خلال النصف الأول من 2024؟