كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
تطوي السنة الحالية آخر صفحاتها على وقع المجازر المستمرة في قطاع غزة ولهيب تصاعدي في الضفة وجنوب لبنان وباب المندب قبالة سواحل اليمن.
هو عام يرحل بعد أن رمى بحممه على قطاع غزة، وسط عالم ازداد منسوب اضطراباته. فمن حرب أوكرانيا التي لم تهدأ نارها، والتي لفح لهيبها روسيا نفسها مع تمرّد «فاغنر» وسيطرته على مناطق في جنوب روسيا، ما سمح لهذه القوات المرتزقة من التقدّم بسهولة في اتجاه موسكو من دون أن يستطيع أحد تقديم شرح منطقي. وقد يكون البعض يأمل في طي هذه الصفحة مع مقتل بريغوجين مؤسس «فاغنر» وزعيمها، لكن ثمة زوايا كثيرة مبهمة تطرح مئات علامات الاستفهام.
ومن لهيب أوكرانيا التي أرهقت أوروبا وكرّست ابتعادها عن روسيا، الى انقلابات إفريقيا التي أدّت إلى طرد النفوذ الفرنسي من مغانم القارة السوداء.
ومن ثم تلك الحرب التي اندلعت في السودان من عنوان معروف أو وظيفة واضحة. لكن هذه الحرب داخل إفريقيا والمجاورة لمصر وليبيا شمالاً وأيضاً للخليج العربي شرقاً، ستجد حتماً من يود توظيفها في لعبة المصالح الدولية والضغوط المتبادلة.
وجاء بركان «طوفان الأقصى» ليقلب المعادلات ويفتح أبواب الصفقات والترتيبات، طالما أنّ النار المندلعة قادرة على إنضاج الطبخات المعدّة للشرق الأوسط بسرعة أكبر.
ولذلك قد يصح تسمية السنة الحالية بسنة التحضير للتحولات الكبرى، على أن تشكّل السنة المقبلة سنة تثبيت هذه التحوّلات.
ففي 2024 تحضيرات ناشطة في الكواليس لترتيب تفاهمات عريضة، أضف الى ذلك عشرات الإنتخابات على مستوى العالم، يبقى أبرزها على الاطلاق الإنتخابات الرئاسية الاميركية أواخر السنة، والانتخابات الهندية بعد فترة وجيزة. وهنا لا بدّ من الاعتراف بالتأثير المستجد للهند على الخليج والشرق الاوسط بعد دخول العالم في مرحلة «المنافسة» الاميركية ـ الصينية، واعتماد طريق الهند ـ اسرائيل مروراً بالخليج طريقاً بعنوان تجاري ومضمون سياسي.
ولكن ثمة نتائج لانتخابات غير مقرّرة بعد، من المفترض أن تحصل في بحر السنة المقبلة، والمقصود هنا انتخابات في إسرائيل بعد وقف الحرب، والاستحقاق الرئاسي في لبنان.
وعلى الرغم من أنّ السنة الحالية كرّست إسقاط الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم مع بروز التحدّي الصيني والروسي على الرقعة العالمية، إلّا أنّ حرب غزة أثبتت وجود إقرار دولي كامل بالمرجعية الأميركية للشرق الأوسط. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة البرودة الكاملة في الموقفين الصيني والروسي.
لا بل هنالك من يعتقد بوجود «تبادل خدمات» بين واشنطن وموسكو ويطاول ميادين الحرب الملتهبة في كل من غزة وأوكرانيا. لا بل ثمة بوادر برودة في العلاقة ما بين موسكو وطهران، ظهرت إثر البيان الوزاري العربي ـ الروسي حول «الجزر الثلاث» المتنازع حولها بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة، ما دفع بالخارجية الإيرانية الى الاحتجاج رسمياً أمام السلطات الروسية. وجاء ذلك ليؤكّد مصالح روسيا الاقتصادية مع دول الخليج، إضافة الى إشارة مبطنة حول ضرورة الحدّ بعض الشيء من النفوذ الإيراني على ساحات الشرق الاوسط.
وفي حركة موازية اندفعت السعودية في ترتيب تفاهمات ثابتة ونهائية مع الحوثيين، على الرغم من الأحداث البحرية الخطيرة في البحر الأحمر. وهو ما يعني في وضوح أنّ السعودية والتي تعمل بجدّ للانتقال الى حقبة إقتصادية وسياحية جديدة، تبني سياستها على أساس طي صفحة التوتر ولغة «رسائل الصواريخ». أضف الى ذلك إدراكها أنّ الحماوة القائمة هدفها التمهيد لصفقات عريضة وليس أبداً للدخول في مرحلة نزاع جديدة.
وقد يكون محقاً من يعتقد أنّ الادارة الأميركية تشعر بأنّ التعب حلّ لدى الأطراف الأساسية في الشرق الأوسط، ما يجعلها قادرة على إتمام الترتيبات التي تريدها قبل دنو موعد فتح الصناديق الإنتخابية. ومن هنا يمكن فهم الخطوة السعودية وتمنّعها عن المشاركة في الإئتلاف الحربي البحري لضمان سلامة الخطوط المائية من هجمات الحوثيين. هي في الواقع تترك المهمّة على عاتق واشنطن وفي الوقت نفسه تحمل ضمناً عشرات التساؤلات حول النيات الأميركية الحقيقية.
كذلك فإنّ التعب الإقتصادي يصيب مصر، والذي يزيده مصيبة الهجمات البحرية ما يؤثر سلباً على مداخيل قناة السويس. مع الإشارة الى الدور المهمّ لمصر في انتاج الإخراج المطلوب لحرب غزة.
وإسرائيل حلّ بها التعب بعدما أصابها هلع تاريخي لا يمكن محوه بسهولة. فعملية «طوفان الأقصى» حفرت عميقاً في نفوس الإسرائيليين، وأعادت طرح هاجس الوجود وإمكانية الاستمرار في الكيان القائم. وكان واضحاً السقوط الاسرائيلي والذي قارب الانهيار الكامل لولا الاستنفار العسكري الأميركي والتدخّل بقوة وبسرعة. وعلى الرغم من المجازر التي نفّذتها اسرائيل والتي لم تشهدها حتى الحرب العالمية الثانية، بقي الجيش الاسرائيلي في حال من اللاتوازن العسكري وبقي القلق الوجودي يثقل كاهل المستوطنين الإسرائيليين. وهي نقطة لمصلحة الإدارة الأميركية المتفقة مع الحكومة الإسرائيلية حول حماية دور اسرائيل ووظيفتها في المنطقة، ولكن المختلفة معها حول الدرب الواجب سلوكه إنّ مع الفلسطينيين أو مع جنوب لبنان. صحيح أنّ نتنياهو يحلم بإنقاذ نفسه من خلال الرهان على إمكانية «طرد» الفلسطينيين وتحقيق «حلم» أحادية الدولة إليهودية، إلّا أنّ الجيش الاسرائيلي يعجز عن تسجيل انتصار عسكري واضح يسمح لنتنياهو بفرض شروطه. لأجل ذلك بدأت تظهر في الأفق إشارات تأخير وصول المساعدات العسكرية الأميركية الى اسرائيل، ما يؤشر إلى دفع نتنياهو للذهاب الى عدم إطالة أمد الحرب لأبعد من نهاية كانون الثاني المقبل. لكن الخطورة من أن يعمد نتنياهو ومعه الفريق المتطرّف والقيادة العسكرية الى الاندفاع في اتجاه جنوب لبنان كسبيل لإشاحة الأنظار عن عدم تحقيق نجاحات كبرى في غزة. ولم يعد سراً سعي نتنياهو والقيادة العسكرية دائماً لإقناع واشنطن بشن حرب واسعة على «حزب الله» في لبنان. لكن الجواب الأميركي كان دائماً الرفض.
ووفق ما تتناقله الأروقة الديبلوماسية، فأنّ النقاشات الطويلة أظهرت انتقادات أميركية لعيوب ظهرت على مستوى القدرات البرية للجيش الإسرائيلي. وأنّ قوات الاحتياط والتي تتولّى مهمّة المساندة لا الهجوم، تشوبها أيضاً عيوب خصوصاً لناحية الشريحة الشبابية وهي الفئة التي يرتكز إليها عادة. وهذا ما يجعل القدرات البرية للجيش الاسرائيلي غير مضمونة. ما يعني أنّ الحرب ستقتصر على القصف والتدمير، وهو ما سيعني فعلياً تقويض ما تبقّى من هيكل الدولة اللبنانية، أكثر منه حتمية القضاء على «حزب الله». وعلى الرغم من ذلك فإنّ واشنطن تبقى متخوفة من احتمال حصول ضربة صاروخية غير مدروسة من جانب «حزب الله» سيستغلها نتنياهو للإندفاع في مغامرته اللبنانية، ولو أنّ هذا الاحتمال لا يبدو كبيراً.
ولذلك تكشف أوساط معنية بأنّ الأجواء اللبنانية والسورية والإسرائيلية تخضع لرقابة أميركية كاملة على مدار الساعة، بهدف تدارك أي مفاجأة قد تحصل من أي طرف كان.
كذلك فإنّ من غير المستبعد أن تكون الإدارة الأميركية تستشف عوارض التعب لدى إيران. وهذا ما ظهر مع الاحتجاجات الشعبية منذ نحو عام ونصف عام، والتي نتجت من عوامل عدة أبرزها الواقع الإقتصادي، والتعب الداخلي من القواعد الصارمة، أضف الى ذلك أنّ دقّة المرحلة وحساسيتها تفترضان سلوكاً مدروساً. أضف الى ذلك أنّ الرصيد الكبير الذي كان تمّ التحضير له والعمل على مراكمته بعناية وصبر طوال العقود الماضية والذي عُرف باستراتيجية محور المقاومة، قد تمّ «صرفه» في عملية «طوفان الأقصى»، ما يعني أنّ على إيران إعادة بناء استراتيجية جديدة وهو ما يتطلّب عقوداً جديدة من الزمن. ولأنّ الظروف دقيقة اندفعت إيران لتثبيت النفوذ الذي حققته بدءاً من البحر الأحمر حيث الممرات المائية لنحو عشرة في المئة لحركة التجارة العالمية. لكن ثمة تفاوضاً بالنار يحصل بين طهران وواشنطن حول هذه الممرات، وهو لا يوحي بمرونة أميركية. وذلك انسجاماً مع تقييم واشنطن بأنّ التعب حلّ بجميع الأطراف ما يجعلها قادرة على فرض شروطها لا العكس.
وهذا ما ينعكس أيضاً على واقع الساحة السورية حيث تمّ إدخال الطيران الحربي الاردني الى جانب حراك أهالي السويداء. ولفت في هذا الاطار إغتيال المسؤول الإيراني الرفيع في الحرس الثوري والذي كان مكلفاً الملف السوري. وما إذا كانت واشنطن مشاركة أو على علم مسبق بعملية الاغتيال، ومعنى الصمت الروسي؟
أياً تكن الأجوبة الّا انّ القراءة الأولية لرسالة الاغتيال تؤشر الى انّ المقصود هو الدور الإيراني في سوريا والسعي للتخفيف من حجمه مستقبلاً. وهو ما ينطبق أيضاً على جنوب لبنان عبر السعي الجدّي لتطبيق القرار 1701. والهدف الأميركي هنا واضح ويقضي بفك الارتباط الميداني بين إيران وإسرائيل إن في الداخل الفلسطيني أو عبر لبنان وسوريا.
وتسعى واشنطن لإبلاغ المعنيين بطرق عدة أنّ استراتيجيتها الجاري رسمها في المنطقة تلحظ اهتمامها الكامل بالساحل الشرقي للبحر المتوسط والذي يشمل لبنان وسوريا. وتبدو واشنطن غير قلقة لموقف روسيا لا بل على العكس. وهذا ربما ما يفسّر الى حدّ بعيد الصمت الروسي في سوريا.
وقد تكون واشنطن تشعر بأنّ الائتلاف الإسرائيلي المتطرّف يعيش آخر أيامه، وأنّ ائتلاف حكومة ما بعد الانتخابات ستكون متعاونة معها خصوصاً وأنّ الجيش الاسرائيلي في حاجة الى إعادة تأهيل شاملة على يد الخبراء العسكريين الأميركيين.
وكذلك الواقع اللبناني الاقتصادي المزري، ما يجعل الجبهة الخلفية لحزب الله صعبة وخطرة، وهو ما سيفتح الطريق امام تطبيق القرارات الدولية في الجنوب.
وتبدو واشنطن وحدها القادرة على إعادة مدّ لبنان بالأوكسيجين الإقتصادي عبر المؤسسات الدولية، وكذلك تعزيز الجيش اللبناني لإعادة ضبط الساحة اللبنانية الداخلية ولو تحت سقف تفاهمات وضمانات مع «حزب الله».
وبخلاف الأجواء السائدة فإنّ واشنطن تبدو مهتمة بالوضع اللبناني وترتيب مخارج له تؤمّن الاستقرار لعقود الى الأمام، وأنّ هذا المناخ سيجري تظهيره بنحو أوضح مع برنامج التحرك الجديد للمجموعة الخماسية من خلال جان إيف لودريان، والذي سيتحدث بإسم الدول الخمس. مع التأكيد أنّ إيران ستكون موجودة في هذه المشاورات عبر فرنسا وقطر، الى درجة يصلح معها تعبير «الدول الخمس زائد واحداً».
في اختصار، فإنّ سنة البراكين الآيلة الى الرحيل مهّدت جيدًا، ولو بالدم الغزير، لسنة تركيز التحوّلات الكبرى والتي يقف لبنان في صلبها.