كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
لا تنفصل زحلة عن الخلاف الذي ولّده قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية. فقد فجّر إقرار مجلس النوّاب هذا القانون في الشهر الأخير من العام الماضي، قلوب أصحاب الملك «المليانة» من «المستأجرين» القدامى، ليدفع بكل طرف إلى تعزيز حججه في الإصرار على تطبيق القانون أو رفضه، وهذا ما خرق مشهد الرتابة الذي يتعايش معه أبناء سوق زحلة التجارية منذ سنوات.
إلا أنّ معظم النقاش بدا وكأنه متركّز في وسط المدينة التجاري تحديداً. ليس السبب فقط في كون عقود التأجير القديمة التي يشملها القانون الجديد، تتركّز بجزء كبير منها في هذا الوسط، وإنّما أيضاً لما يتمتّع به هذا الوسط من خصوصية، ترتبط بمؤسسات تحوّلت مع الزمن إلى ما يشبه معالم تجارية ثابتة، ولو متهالكة في جزء منها. وبالتالي يُخشى من أن تؤدي تداعيات تطبيق قانون الإيجارات الجديد إلى القضاء نهائياً على هذه الخصوصية. صحيح أنّ أسواق زحلة التجارية توسّعت منذ مدّة إلى خارج وسطها، حيث اكتسبت الإمتدادات التجارية طابعاً أكثر حداثة، عكس حجم الاستثمارات التي وضعت في هذه المؤسسات، إلا أنّ «روح زحلة» ما زالت مرتبطة بوسطها التجاري. ففيه لا يزال الزبائن يلتقون وجوه أصحاب المؤسسات. بعضهم توارثوها أباً عن جد، حتى وصلت للجيل الجديد الذي طوّرها بعضُه كثيراً. في المقابل، شاخ كثيرون أيضاً في مؤسساتهم ومعها. ومع أنّ جزءاً من هؤلاء أيضاً تقاعد أو غاب عن الحياة، إلا أنّ عناوين متاجرهم بقيت راسخة في الأذهان. وعليه، يتمسّك ورثتهم بأبواب محلاتهم، لما تحمله من قيمة معنوية بالنسبة إليهم. ففيها يجدون ذكرى من رحلوا. يحلّ بعض هذه العناوين في زحلة كبديل عن أنظمة تحديد المواقع الإلكترونية. فالزحليّ عندما يريد أن يرشد أحدهم إلى أي موقع، يحدّده إلى جانب واحدة من تلك المؤسسات. فيكون المكان المقصود قبل هذه المؤسسة أو بعدها. وحتى لو لم تعد المؤسسة بحدّ ذاتها منتجة، يذكرها كمعلم لا يمكن للباحث عنه أن يضيّعه.
في جولة بأرجاء الوسط التجاري بالتزامن مع إقفال رمزيّ للأسواق نفّذه التجار المستأجرون تعبيراً عن اعتراضهم على القانون بصيغته الموضوعة، كان يمكن الإلتقاء ببعض أصحاب المؤسسات التي شملها القانون. معظمهم بنوا هذه المؤسسات بأنفسهم، أو ورثوها عن آبائهم، بحيث يتحدث البعض عن مؤسسات عمرها أكثر من ستين سنة، صمدت في كل الظروف، حتى وقعت الأزمة المالية الأخيرة، وخلّفت ما خلّفته من تداعيات هدّامة.
إلا أنّه رغم الضربة الأخيرة القاضية، لا يزال أبناء وسط زحلة التجاري يأملون في نهضة اقتصادية تسمح لهم بتجديد استثماراتهم، متمسّكين بضمانتهم الوحيدة لذلك، والمتمثلة بعقود إيجاراتهم القديمة، وما شكّلته من عامل استقرار بالنسبة إليهم طيلة السنوات الماضية.
يصرّ أصحاب هذه المتاجر على الاحتفاظ بها، مع إقرارهم بحق المالك بأجرة منصفة، تحفظ له حقّه بالملك، ولكن من دون أن تسلّطه على المستأجر، أو تنزع من الأخير عامل الاستقرار، بما يشكّله من ركن أساسي من أركان الاستثمار وتجديده.
إلّا أن النقاش الذي يدور في المدينة يقود أيضاً لوجهة نظر مختلفة لدى المالكين أو داعميهم. فبينهم من يعتبر أن المستأجرين بعقودهم القديمة تحوّلوا شركاء أقوى في مؤسساتهم. ويتحدّث هؤلاء عن أعراف خلّفها التأخير في تطوير التشريعات، سمحت للمستأجر بأن يبيع خلوّ محلّه إلى مستثمرين جدد. ففي معرض بحث المستثمر الجديد عن عامل الاستقرار الذي وجد في عقود الإيجارات غير المتحركة، سدّد مبالغ طائلة للمستأجرين القدامى مقابل استثمار مواقع مؤسساتهم، من دون أن يستفيد المالك سوى من زيادة طفيفة على أجرة المؤسسة، سرعان ما فقدت قيمتها مع تدهور قيمة العملة اللبنانية. هذا الواقع يشير إليه البعض كونه واحداً من العوامل التي حدّت من الاستثمارات وتجدّدها في وسط زحلة التجاري، ما جعله في حالة ترهّل وقتل الطموح في هذا الوسط. بحسب أصحاب هذا الرأي إن تمسّك المستأجر القديم بالمأجور قلّص عدد المؤسسات المتوفرة لاستثمارات جديدة، وبالتالي رفع كلفة الإيجارات الجديدة في العدد القليل من المحلات التي تمّ إخلاؤها.
في أسوأ مرحلة
هذا الجدل بالطبع ولّدته استفاقة مجلس النواب على إقرار قانون استغرق النقاش فيه نحو تسع سنوات تقريباً. فالحديث عن مشروع قانون خاص حول الأماكن غير السكنية بدأ مع صدور قانون الإيجارات في سنة 2014، وقد نصّ على تمديد عقود الإيجار غير السكنية إلى حين إنجاز مشروع قانون منفصل لها، واضعاً مهلة قصوى لذلك في العام 2018. إلا أنه كما هو حال معظم الأمور في لبنان، مدّدت هذه المهلة مرتين حتى شهر حزيران 2022، إلى أن أخرجه مجلس النواب من جعبته في منتصف شهر كانون الأول من العام الماضي، أي بتأخير عام ونصف عن مهلة التمديد الأخيرة التي حدّدت له.
المأخذ الذي يسجّل في زحلة، هو أن مجلس النواب اختار أن يفجّر هذا القانون بوجه مستأجري المؤسسات غير السكنية، التجارية تحديداً، في أسوأ مرحلة يمرّ فيها هؤلاء، حيث أموال المودعين ومن بينهم التجار ما زالت محتجزة في المصارف، ولا مصارف تقرض التجار لتطوير استثماراتهم حتى يحسّنوا إنتاجيتهم، والواقع الأمني المتصدّع داخلياً يعيق هذه الاستثمارات. ولذلك هم يعتبرون أن هذا القانون، سيشكّل رصاصة قاتلة لتجار الوسط التجاري قد تؤدي إلى تهجير من تبقّى منهم.
وإذ يحاول هؤلاء التصدّي لذلك عبر بيانات وتحرّكات شعبية ومراجعات لنواب المنطقة، يبقى أملهم بالتراجع عن هذا القانون. أما في حال تمّ السير به حتى نشره في الجريدة الرسمية، فالتعويل بالنسبة إلى هؤلاء هو على عدم تطبيقه، أسوة بقانون الإيجارات الذي صدر سنة 2014، والذي تحوّل من عامل تنظيم للعلاقة بين المالك والمستأجر، إلى مفجّر لنزاعات قضائية بينهما، الأمر الذي يرسّخ بالنسبة إلى كثيرين صورة الدولة الغائبة عن رعاية شؤون مواطنيها، ويبقى غيابها بالنسبة إليهم أفضل من يقظاتها التي تضع الناس في كل مرة بمواجهة بعضهم بعضاً، بدلاً من أن تتحوّل عدالتها ضمانة لحقوقهم جميعاً.