كتب إيليا ج. مغناير في “الراي”:
بدأت إسرائيل التحوّل تدريجياً، من حرب برية شاملة غير ناجحة على غزة بعد إعلانها انتهاء العمليات في جنوب القطاع، إلى حربِ اغتيالاتٍ وعمليات خاصة.
إلا أن هذا الإعلان، عند تنفيذه، لا يعني أبداً أن أهداف إسرائيل تحققت بتحرير السجناء والقضاء على حركة «حماس» التي تقاوم بشراسة وتطلق الصواريخ تجاه تل أبيب يوماً تلو الآخر، بل هو يهدف إلى إطالة أمد الحرب وتخفيف الخسائر البشرية ومحاولة إرضاء أطراف متطرفة في حكومة بنيامين نتنياهو، الذي أصبح رهينة لهؤلاء، وجل ما يرمي إليه البقاء في الحُكْم لأطول مدة ممكنة.
لكن أسلوب إسرائيل في الاغتيالات بدا أكثر وضوحاً في الساحة اللبنانية، ما يفرض على «حزب الله» التفكير بفرض قواعد اشتباك جديدة ليمنع اغتيال كوادره وعناصره كما تفعل تل أبيب.
من الطبيعي أن تَسقط كل المعادلات عندما تندلع الحروب، ومن الواضح أن إسرائيل خرقت جميع الخطوط الحمر في حربها على «حزب الله» بقصف الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال قادة «حماس» (من المكتب السياسي و«كتائب القسام»)، وبعد سلسلة الاغتيالات التي طاولت عناصر وقادة من «حزب الله» داخل منازلهم وفي سياراتهم في عمق الجبهة الجنوبية.
وتقول مصادر مطلعة إن نتنياهو يطوّر أداءه واعتداءاته ويستخدم أكثر، سلاح الجو والمسيَّرات والقنابل الفوسفورية، للتسبب بأكبر ضرر لـ «حزب الله» وبيئته وللمناطق الجنوبية وأحراجها.
وتؤكد الأوساط الإسرائيلية أن الخسائر على الحدود الشمالية بلغت 1.6 مليار دولار بسبب بدء «حزب الله» الحرب «نصرةً لغزة»، وتسببت بتهجير أكثر من مئة ألف مستوطن، بينما تسبب القصف الإسرائيلي بتدمير نحو ألفي منزل في جنوب لبنان، وبخسائر أخرى تُقدر بنحو 100 مليون دولار وتهجير 79 ألف شخص.
إلا أن المشكلة تكمن في ردّ فعل «حزب الله» على الاغتيالات الإسرائيلية: فضرْب قاعدة التحكم والسيطرة الجوية في ميرون وقاعدة صفد للقيادة والسيطرة بالصواريخ الضخمة أو المسيَّرات الانتحارية، لن يوقف ضربات إسرائيل الموجعة واغتيالاتها المستمرّة والتي يجد الحزب نفسه أمامها، في موقف يحتّم عليه إيجاد معادلة جديدة لفرض قواعد اشتباك ومنْع الاستمرار في اغتيال عناصره وقادته.
ففي حال تعمّق الحزب في ضرب مواقع داخل العمق الإسرائيلي – كما يفعل أحياناً – فإن الجيش الإسرائيلي يلحق به ويضرب في العمق اللبناني بقسوة أكبر من دون التوقف عن استهداف أهداف فردية واغتيالات لعناصر من الحزب. وكلما رفع الحزب من مستوى العيار التدميري، لحقت به إسرائيل، وسبقتْه أيضاً، بضربات مؤلمة لمناطق عدة تمعن فيها تدميراً.
وتغتال إسرائيل عناصر وقادة الوحدات الهجومية من قوات المشاة الخاصة التابعة لـ «فرقة الرضوان»، وكذلك تغتال عناصر من الوحدات الصاروخية المسؤولة عن القصف الذي تتعرّض له يومياً.
ولغاية اليوم ومنذ أن فتح «حزب الله» النار على إسرائيل في الثامن من تشرين الاول الماضي، دعماً لغزة، اغتالت إسرائيل 31 عنصراً وقيادياً في الحزب في منازلهم بعد عودتهم من قصف إسرائيل، أو داخل وسائل نقل خاصة وعامة لأنها تعلم استخباراتياً بانتمائهم إلى الوحدات الصاروخية المتنوعة.
وقد علم «محور المقاومة» من خلال توقيف العملاء على مدى الأعوام الماضية، وكذلك الأسرى واستجوابهم، أن تل أبيب تطلب التفاصيل الدقيقة عن كل منزل وشارع وقرية في لبنان، حيث تتواجد بيئة المقاومة وعناصرها من مختلف المسؤوليات. وهي سبق وخرقت «داتا» الاتصالات اللبنانية وتملك قدرةَ خرقِ «الواتساب» بكل تفاصيله، وتستطيع زرع برنامج «بيغاسوس» التجسسي لخرق المحادثات الصوتية والرسائل المتبادَلة وتحديد الأماكن.
وبسبب قدرة إسرائيل التكنولوجية، فهي تملك أرقام هواتف وكل الأجهزة المحيطة بالأهداف التي تحتاج إليها.
وتالياً فإن عدم حمْل المسؤول المستهدَف لجهاز الاتصال الذكي الذي تستطيع إسرائيل خرقه لا يجنّبه الخطر، فهي تخرق أجهزة اتصال أفراد عائلته الذين لا يتخلّون عن وسائل الاتصال والتي من خلالها تستطيع تَتَبُّعَهم.
من هنا، فإن التدابير الأمنية التي فرضها «حزب الله» على القادة والعناصر، محدودة النتيجة، بسبب التتبُّع الدقيق لهؤلاء ومعرفتها بتفاصيل حياتهم وتنقلاتهم مهما اتخذوا من تدابير وقائية. إضافة إلى عدم الاستخفاف بالعنصر البشري الجاسوسي التي تجنّده تل أبيب في المناطق التي تعتبرها معادية والتي تضمن غزارةً في الأهداف.
يقول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إنه «ليس من مصلحة أحد أن يتمدّد التصعيد»، وهو يقصد موقف بلاده والدول وتنظيمات المقاومة الداعمة لغزة… إلا أن لنتنياهو، الذي أصبح ضعيفاً ولكن أكثر شراسة، مصلحة في إطالة أمد الحرب والبقاء في الحكم ريثما يصل رئيس أميركي مثل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يقبل بإنهاء الوجود الفلسطيني في غزة، على عكس إدارة الرئيس جو بايدن.
وتالياً فإن لإسرائيل أدوات متعددة للبقاء في وضعٍ قتالي مكلف لغزة وللحزب وباستطاعتها إنهاء العمليات العسكرية البرية والإبقاء على العمليات الخاصة وتجنُّب الالتحام مع «حماس» و«حزب الله»، وتحويل غزة وجنوب لبنان مناطق عسكرية غير مسكونة واصطياد القادة والأفراد بأقلّ خسائر بدل استنزاف جيشها في القطاع وجنوب لبنان.
وجلّ ما يبحث عنه نتنياهو هو ترْكُ بصمةٍ خلفه لجميع دول وتنظيمات الشرق الأوسط ممن يفكّر في ضرب إسرائيل مستقبلاً، ليرى هؤلاء حجم الدمار الذي يمكن أن يصيبهم إذا اعتقدوا أن عملية السابع من تشرين الاول يمكن تكرارها.
وهذا يدفع برئيس الوزراء، للانسحاب التكتيكي من غزة بعد انتهاء الأعمال العسكرية في الجنوب، وإبقاء القوة الجوية مستنفَرة، خصوصاً المسيّرات الانتحارية والمتخصصة بحمل صواريخ الاغتيالات وبرفْع وتيرة الأعمال الجوية كما فعل الرئيس السابق باراك أوباما في أفغانستان ضد تنظيم «القاعدة».
إذاً على «محور المقاومة» إيجاد معادلة جديدة تحاول معاودة ترسيم الخطوط الحمر وتفرض معادلة الردع أو الاستعداد لتدابير إضافية لتخفيف الخسائر البشرية التي تعطي نتنياهو بعض جرعات النصر التي يحتاج إليها، ليثبت عكس ما يصرّح به المسؤولون الإسرائيليون مثل زعيم المعارضة يائير لابيد، من أن «نتنياهو لم يعد مؤهلاً لقيادة الحرب وإسرائيل».