كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
لم ينل تعيين وزير خارجية فرنسي جديد الاهتمام السياسي المفترض لبنانياً، رغم أن حلول ستيفان سيجورنيه محلّ الوزيرة كاترين كولونا، ينبغي أن يثير أسئلة لبنانية عن المسار الذي ستعتمده فرنسا في سياستها الخارجية، بعد سلسلة عثرات متتالية.ورغم الانتقادات الفرنسية التي طاولت الحكومة الجديدة، ومنها حقيقة دور وزير الخارجية في ظل إمساك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالسياسة الخارجية منذ تولّيه منصبه، لا بد من الأخذ في الاعتبار أن بيروت دفعت ثمن تخبّط الدبلوماسية الفرنسية أكثر من مرة.
فمنذ المبادرة الفرنسية، عاش لبنان على إيقاع خطين دبلوماسيين، واحد مثّله فريق الإليزيه وماكرون شخصياً، وآخر مثّلته دوائر الخارجية، فضلاً عن الهامش الذي كان يتصرف ضمنه فريق السفارة الفرنسية في بيروت. وعلى مدى السنوات التي تلت المبادرة، تنقّل ملف لبنان بين يدي أكثر من فريق، وكان لكل شخصية أسلوبها وطريقتها في العمل، ورؤيتها للقوى السياسية في لبنان ولكيفية التعاطي مع العواصم المعنية في اللجنة الخماسية، وسط تضارب آراء بين موظفي الخارجية الكبار وشخصيات من فريق عمل ماكرون.
وفي الأشهر الأخيرة التي تلت دخول جان إيف لودريان، الذي تولى وزارة الخارجية في ولاية ماكرون الأولى، على خط لبنان موفداً رئاسياً شخصياً، وعلى خط خارجي سعودي بعد تعيينه رئيساً لوكالة التنمية الفرنسية في العلا، ومع أعضاء اللجنة الخماسية، حصلت تبدّلات عدة في إدارة الملف اللبناني وملفات أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، من بينها الإطاحة بمدير الاستخبارات الخارجية برنار إيمييه الذي يعرفه لبنان جيداً، بعد أيام من عودته من بيروت التي وصلها سراً من تل أبيب، حاملاً مقترحات ورسائل تتعلق بالحدود الجنوبية والقرار 1701.
كلّ ذلك يجعل من الصعب تجاوز آفاق المرحلة المقبلة. فمع الحكومة الجديدة التي يتزامن تشكيلها مع دخول المنطقة سباقاً دولياً لوقف الانزلاق نحو الحرب، تشكل الخارجية حجر الزاوية في التحرك الذي تريد باريس من خلاله تثبيت دبلوماسيتها في المنطقة. أما في ما يخصّ لبنان، فهو انتظار ما ستفرزه معالم هذه السياسة، مع الاستعداد لانعقاد اللجنة الخماسية، وإعادة تحريك باهت لملف الرئاسة رغم التوقيت غير المناسب، والتهديدات الإسرائيلية بالحرب. وكذلك طرح تساؤلات بديهية عن مستوى التماهي المطلق بين الخارجية والإليزيه ولا سيما أن الوزير الجديد آتٍ من حلقة ماكرون الضيقة، ما يبرّر حدة الانتقادات الداخلية حول عدم قدرته على رسم سياسة خارجية بعيدة عن فريق الإليزيه.
وتكتسب هذه الانتظارات أهمية وسط تقدم دبلوماسية أخرى فاعلة منذ اندلاع حرب غزة. فألمانيا التي تقدّمت إلى الصف الأول أوروبياً منذ حرب أوكرانيا، وتصدّرت المشهد الدولي مع حرب غزة بوقوفها إلى جانب واشنطن و«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، تحرّكت لبنانياً أكثر من مرة منذ 7 تشرين الأول. وفتحت زيارة وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس لبيروت، مع اندلاع الحرب، باب الإحاطة بوضع القوات الدولية وتفعيل القرار 1701.
وتكثّفت الحركة الألمانية في المنطقة مع تجدّد المبادرات، وآخرها جولة وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك في المنطقة للمرة الرابعة خلال أربعة أشهر، وهذه المرة تزامناً مع جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وطرحها ملف الحدود الجنوبية في بيروت.
أعطت ألمانيا أهمية لجولة وزيرة الخارجية لجهة إعادة بعض «التوازن» إلى الخطاب الألماني في الدفاع عن حق المدنيين في غزة من دون تخفيف اللهجة ضد حماس. وهي أرادت من بيروت الإضاءة على ملف الحدود مع إسرائيل. ورغم أن المانيا تشارك في القوة البحرية في اليونيفل، فإنها للمرة الأولى تدخل بجدية ووضوح على ملف الحدود الجنوبية البرية، منذ أن حذّر وزير دفاعها من سحب اليونيفل، وصولاً إلى إعلان وزيرة الخارجية عن مساعدات للجيش اللبناني بقيمة 15 مليون دولار «لتوفير الأمن» في الجنوب، وإشارتها إلى حزب الله وضرورة انسحابه من المنطقة وتنفيذ القرار 1701. ورغم علاقات سابقة ربطت الحزب بألمانيا التي لعبت أكثر من مرة دور الوسيط في قضايا الأسرى وغيرها، إلا أن تحوّل ألمانيا في السنوات الأخيرة وحظرها حزب الله على أراضيها وتصنيفه منظمة إرهابية، كل ذلك لم يحل دون أن تسعى برلين إلى لعب دور في لبنان، نظراً إلى تجربتها السابقة، ومشاركتها في الوقت نفسه في اليونيفل، ما يعطيها حق الاهتمام والتدخل، وتقاسمها مع واشنطن رؤية واحدة، في قضايا تتعلق بأوروبا والمنطقة.
قدّمت ألمانيا ما لم تقدّمه فرنسا في السنوات الأخيرة ولا سيما في أوروبا، بما أعطى واشنطن مساحة ثقة أوسع بها مقارنة بالدور الذي كانت تلعبه باريس، ومنح برلين في المقابل دفعة إلى الأمام في لعب دور متقدّم في المنطقة. وإذا أضيف التخبط الفرنسي حتى في حرب غزة واعتماده مواقف متناقضة من زيارة ماكرون لإسرائيل ودعوته إلى تحالف دولي ضد حماس، ومن ثم عقد مؤتمر إنساني لدعم غزة، تُفهم نزعة واشنطن نحو برلين. لكنّ هذا الدور سيكون محكوماً باعتبارات أولية تتعلق بموقف حزب الله الذي حذّره المستشار الألماني أولاف شولتز، وإيران، من التدخل في الصراع بين إسرائيل وحماس، ومدى ثقته بقدرة ألمانيا على لعب دور محايد، ولا سيما أن الحزب وجّه انتقادات إليها أكثر من مرة. إضافة إلى أن حزب الله لا يزال يراهن على علاقاته مع باريس رغم أزمة الثقة الأخيرة بينهما. ففي النهاية ما حصل عليه الحزب من إدارة ماكرون في السنوات الأخيرة لا يمكن التفريط به، وباريس تتدخّل في ملفات محلية عدة من الجنوب إلى الرئاسة والاقتصاد والأمن.
في حين أن الدور الألماني محصور حتى الآن بترتيبات جنوبية لها صلة بإسرائيل. فكيف يمكن للحزب أن يسلّم بهذا الدور، الذي يحظى بغطاء أميركي، حتى في ظل مفاوضات إقليمية، للعب دور الوسيط، رغم أهمية الملف العسكري والحدودي الذي يمثل بالنسبة إليه العنوان الوحيد اليوم في أجندته الداخلية؟