كتبت آمال خليل في “الأخبار”:
مع دخول العدوان الإسرائيلي على الجنوب شهره الرابع، بدأ بعض أبناء البلدات الحدودية السعي إلى تعزيز صمودهم في أماكن النزوح. في الوقت المستقطع إلى حين العودة، افتتح أهالي القرى ممن لا يألفون البطالة والاعتماد على برامج الإغاثة، محال وبسطات في البلدات والمدن التي نزحوا إليها، وارتضى بعضهم أن يكون عاملاً يومياً بعدما كان رب عمل.عند مدخل صور الجنوبي، في الطريق المحاذي لموقع آثار البص، يفرش عباس رحمة صناديق الخضر والفواكه. «الفان» الذي يملكه صار مستودعاً لبضاعته. في وسط الصناديق، ثبّت يافطة كتب عليها: «عيتا الشعب، أم العز». الستّيني نزح من بلدته في الشهر الأول من العدوان، مع أبنائه وأسرهم واستقرّ في البرج الشمالي على غرار عشرات من عائلات عيتا. انتظر شهرين قبل أن يفقد الأمل في نهاية قريبة للحرب. «خلصوا مصرياتي»، قال رحمة. لم يعتد الرجل أن يستدين أو يطلب مساعدة، وهو الذي يملك في بلدته متجرين للمواد الغذائية، ألحق القصف أضراراً بأحدهما. في الشهرين الأولين، كان يتحيّن مراسم تشييع الشهداء، فيعود مع العائدين ويتفقّد أملاكه ويحمل ما تيسر من تموين من محله. قبل نحو شهر، أيقن أنّ انتظار العودة قد يطول، فقرر البحث عن مورد رزق بديل، واختار بيع الخضر على بسطة لأن «لا قدرة لي على استئجار محل أو شراء بضاعة لدكان سمانة».
يقول رحمة إن كثيرين من النازحين من أبناء بلدته أسسوا لموارد رزق بديلة، فـ«غالبيتنا في حال لم نعمل، لا نأكل». النكبة التي لحقت بمزارعي التبغ والقمح والغار في البلدة كانت الأكبر. أما أصحاب المهن الأخرى، فقد حاولوا استثمارها ولو «ديليفري». أحدهم كان يملك «كاراج» تصليح سيارات عمّم رقم هاتفه في صور كـ«ميكانيكي ديليفري». ومثله، فعل آخر كان يملك محلاً لصيانة الإطارات في عيتا وتحول إلى «بنشرجي ديليفري» في طورا وجوارها. صاحبة صالون لتزيين الشعر تستقبل زبائنها في منزلها الجديد في العباسية. ومثلها، فعل صاحب محل للفروج النيء، صار يحضّر الدجاج في منزله البديل ويوصله إلى زبائنه، ولحّام يعمل في ملحمة في صور بعدما هجر ملحمته في بلدته.
علي جمعة النازح من بنت جبيل حديثاً بعد الغارات التي استهدفت منازل في وسط المدينة، نقل جزءاً من بضاعة محل الملبوسات الخاص به في سوق بنت جبيل إلى محل آخر تملكه العائلة في أطراف مدينة صور. «معتادون على التهجير وخبراء في التأقلم مع الأزمات» قال جمعة. عند احتلال بنت جبيل عام 1978، هُجّر والده محمد جمعة إلى صور. عمل في بيع الألبسة وتملّك متجراً في وسط السوق التجاري. بعد تحرير عام 2000، أبقى على محل صور وافتتح فرعاً آخر في بنت جبيل. و«هناك مئات العائلات، وزعت مصالحها بعد التحرير بين مسقط رأسها في البلدات المحررة وبين الأماكن التي هُجّروا إليها» سابقاً، وهو ما استفادوا منه في الحرب الأخيرة. إذ قصد كثر منهم البلدات التي احتضنتهم في مدة الاحتلال.
النبطية وضواحيها كما صور فتحت أسواقها للنازحين، ولا سيما المقتدرين منهم ممن يتحملون دفع بدلات إيجار تصل إلى 1500 ألف دولار للمحل شهرياً. عدد كبير من أهالي كفركلا وجدوا ضالتهم في ضواحي النبطية والبلدات المحيطة بها. أحدهم افتتح محل حلاقة وآخر افتتح «كاراج» لتصليح السيارات. أما زينب عواضة، فقد نقلت «الصاج» وما تبقى من أكياس طحين و«مراطبين» الزيتون وجرار الزيت إلى النبطية الفوقا لتبيعها في منزلها. «قاومت النزوح طوال ثلاثة أشهر رغم ما تعرضت له البلدة من عدوان يومي، حتى اضطررتُ للمغادرة قبل نحو أسبوع. فضّلت التعرض للخطر من القصف والغارات على أن أشعر بالقلة بعيداً عن بيتي. ولم أخرج إلا ومعي الزيت والزيتون والطحين».