كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
فجأة هبّت موجة التفاؤل باحتمال انتخاب رئيس للجمهورية في الأسابيع القليلة المقبلة، وتحرّكت اللجنة الخماسية بعد جمود طويل. فما قصة هذا الحراك المستجد، ومن أين جاءت هذه المناخات الإيجابية؟
قبل أيام، غادر الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين بيروت بانطباع الخيبة، ولو ظرفياً، بسبب الفشل في التوصل إلى تفاهم مع «حزب الله» على صيغة مناسبة للاتفاق مع إسرائيل على ترتيبات في منطقة الحدود. وفوجئ الرجل بالجانب اللبناني يطرح مسألة يستعصي حلها، وهي انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وهكذا، فهِمَ هوكشتاين أنّ «الحزب» لم يقتنع بعد بنضوج عناصر الاتفاق. وهذا الفشل يثير هواجس واشنطن، لأنّ الوضع على الحدود بين لبنان وإسرائيل يزداد سخونة في شكل تصاعدي.
بل إن هناك تقارير تحدثت عن مهلة حدّدها الإسرائيليون لبدء تصعيد واسع في الجنوب. وذكرت صحيفة «الواشنطن بوست»، قبل أيام، نقلاً عن مسؤول أميركي، أنّ إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة بانتهاء المهلة بعد أيام قليلة، في آخر كانون الثاني الحالي. فإذا لم يوافق «حزب الله» على وقف الحرب، سينفّذ الجيش الإسرائيلي ضربات قاسية جداً في الجنوب.
هذا الاحتمال المثير للقلق دفع الإدارة الأميركية إلى استنفار اللجنة الخماسية فوراً وفي شكل طارئ، لملء الفراغ بمبادرات سياسية تكون ضمانة لتجنّب المغامرة العسكرية. فمن شأن هذه المبادرات أن تدفع الطرفين، إسرائيل و«الحزب»، إلى التريث وتبادل الأفكار بدلاً من الاستسلام للغة المدفع.
لذلك، باشر سفراء الدول الخمس تحرّكاتهم في لبنان. وأخذ السفير السعودي وليد البخاري على عاتقه جانباً حيوياً من الوساطة بلقاء في دارته وُصف بالحار مع السفير الإيراني أماني مجتبي. أي إنّ طهران باتت في قلب المهمّة التي تخوض غمارها اللجنة الخماسية. ومن خلال «حزب الله»، هي معنية عضوياً بالملفين الأساسيين المطروحين على الطاولة: التفاهمات الأمنية في الجنوب والتسوية السياسية في الداخل.
«الطباخ» الذي أخذ على عاتقه إعداد التسوية في الملفين هو فرنسا، التي تشكّل نقطة تقاطع بين الجميع: تحظى بثقة الولايات المتحدة، ويقبلها الإيرانيون ويتشارك معها السعوديون والقطريون. وفي مرحلة سابقة من حرب غزة، حاول الفرنسيون تسويق تسوية حدودية بين لبنان وإسرائيل، تولاها الرئيس إيمانويل ماكرون وأركانه، مباشرة وعبر الوسيط جان إيف لودريان، على خط بيروت- تل أبيب، وأرفقوها بتسوية سياسية داخلية في لبنان يرتاح إليها «حزب الله»، لكن هذه المبادرة بشقيها لم يحالفها النجاح.
اليوم، يتحرّك الفرنسيون مجدداً. فوزير الدفاع سيباستيان لوكورنو زار إسرائيل قبل يومين، حيث حاور حكومة نتنياهو، فيما هوكشتاين زار باريس للتفاهم مع لودريان حول الطروحات التي يمكن أن يحملها في زيارته المتوقعة لبيروت، خلال النصف الأول من شباط.
الفكرة الفرنسية ليست جديدة، وهي تقوم على الآتي: كما وافق «حزب الله» على تراجع لبنان عن الخط 29 إلى الخط 23 في ترسيم الحدود البحرية، مقابل تسهيل استثمار الغاز والاعتراف بدوره في لبنان، كذلك يمكن أن يوافق على الانسحاب من المنطقة الحدودية، إلى ما بعد الليطاني أو إلى النقاط التي يتمّ التوافق حولها مع إسرائيل، مقابل طمأنته بتسوية سياسية ترضيه في الداخل، وتشمل انتخاب رئيس للجمهورية.
الفكرة الفرنسية هي عبارة عن صفقة متكاملة يعطي فيها «الحزب» عسكرياً في الجنوب ويأخذ سياسياً في الداخل. وهذه الفكرة سبق أن حاول لودريان تسويقها، لكن «الحزب» لم يوافق عليها، لأنّه على الأرجح لم يجد الثمن كافياً ليقدّم هذا التنازل الثمين في الجنوب.
فـ»الحزب» يرغب في أن يكون رئيس الجمهورية مطمئناً له سياسياً، ولكن، في المقابل، هناك أمور لا تشجعه على جعل مسألة الرئاسة جزءاً من صفقة إقليمية- دولية:
1- من غير الممكن أساساً انتخاب رئيس في لبنان لا يرضى عنه «الحزب»، فلماذا إذاً يقدّم التنازل مجاناً على الحدود؟
2- هو اليوم، في ظل الشغور الرئاسي، يمسك بمفاصل السلطة وقرارها. إذاً، ما الفائدة التي يجنيها إذا قدّم التنازلات في الجنوب مقابل انتخاب رئيس؟
3- إنّ انتخاب رئيس للجمهورية يفترض أن يتمّ ضمن صفقة سياسية متكاملة داخلياً، تشمل التفاهم على الحكومة ورئيسها وبرنامجها. وهذه مسألة تستلزم الكثير من المفاوضات مع أطراف عدة في لبنان، ومع القوى العربية والدولية، وتستغرق وقتاً قد يكون طويلاً، فيما اللجنة الخماسية تستعجل إطفاء النار ومنع الانفجار في الجنوب، في أقرب ما يمكن.
وفوق ذلك، ولضرورات كثيرة، لن يتراجع «الحزب»، ومن خلاله إيران، عن طرحه الأساسي في ما يتعلق بوقف النار وإبرام أي اتفاق في الجنوب، وهو وقف الحرب في غزة. وحتى اليوم، ليست هناك مؤشرات إلى تحقيق هذا الهدف.
لذلك، إنّ حظوظ فشل المهمّة الجديدة التي باشرتها اللجنة الخماسية أكبر من حظوظ نجاحها. وقد تنتهي في الداخل بلا رئيس للجمهورية ولا توافقات على الحكومة ورئيسها وبرنامجها، وفي الجنوب بلا إحياء القرار 1701 ولا ترتيبات أمنية ولا ترسيم للحدود البرية.
ولكن هناك إيجابيات في انتعاش الحراك الديبلوماسي، بين حين وآخر. فهو يحدّ من الاندفاعات العمياء نحو حرب لا يريدها أحد: لا الإدارة الأميركية ولا الحلفاء الأوروبيون ولا العرب، لكن طرفي المواجهة إسرائيل وإيران قد ينجرّان إليها رغماً عنهما في لحظة غير محسوبة.