كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
ينهار مبنى فوق رؤوس ساكنيه ويسقط ثماني ضحايا، يتفتت شير صخري شاهق وتتدحرج صخوره نحو الشقق السكنية الواقعة تحته وتدخل غرف نوم قاطنيها، وقبلها ينهار جزء من الطريق الرئيسي بفعل انجراف منحدر ترابي تحته… وكأنه كتب لبلدة المنصورية أن تحيا بخوف مستمر من الكوارث الطبيعية «غير الطبيعية» التي يقف وراءها ألف سبب وسبب. اليوم مبنى ندى 3 مهدد مع التحذيرات من عودة الأمطار الغزيرة، سكانه مهجّرون قسراً يبحثون عن حل ولا يجدون وعبثاً يفتشون عمن يتحمل المسؤولية.
مع بداية ثمانينات القرن الماضي بدأت عملية تحوّل منصورية المتن من قرية صغيرة متواضعة الى بلدة مزدهرة بالعمران والمباني السكنية التي احتلت جزءاَ كبيراً من أراضيها. تهجير الجبل ونزوح أهل بيروت المسيحيين من بعض مناطقها ساهما في رفع الطلب على المنصورية بسبب قرب موقعها من بيروت وكونها إحدى البلدات ذات الأكثرية الأرثوذكسية. بدأت البنايات و»السنترات» ترتفع كالفطر وحمل معظمها توقيع مطور عقاري هو إدمون يزبك الى جانب كثيرين من أهل البلدة الذين رأوا في الفورة العمرانية فرصة لن تتكرر للاستثمار. لكن هل كانت كل المباني خاضعة لشروط صارمة وموافقة للمواصفات أم تجارية لتلبية الطلب المتزايد ؟ هل تمت مراقبة الرخص ؟؟ اسئلة تفسر ربما ما يجري اليوم…
بلدية منحلة ورخص عشوائية
من التقينا بهم من أهل المنصورية وسكانها يجمعون على كون عدد كبير من الأبنية التي رأت النور في تلك الحقبة « بازاري» أو تجاري منخفض المستوى وتشهد على ذلك جولة قمنا بها في بعض الأحياء حيث المباني متلاصقة وبعض شرفاتها مدعم من الخارج بقضبان وأعمدة حديدية وحيث سطوح المواقف أو المستودعات متآكلة الحديد وأرضها مغمورة بالمياه. وشكلت أرض المنصورية الشديدة الانحناءات، كون البلدة تقع على تلة، عاملاً إضافياً في جعل المباني مرتكزة «على صوص ونقطة» كما يقال، حيث أن بعض الأراضي ترابية تتطلب معالجة خاصة فيما بعضها الآخر صخري تم تفجير الصخور لإفراغ قطع أرض صالحة للبناء ما ساهم في زعزعة الصخور القريبة.
قبل البلدية الحالية التي يتولى رئاستها ويليام خوري منذ العام 1998، كانت بلدية المنصورية – المكلس – الديشونية لعقود محلولة تتولى شؤونها قائمقامية المتن وهذا ربما ما يفسر، الى جانب الفوضى التي كانت مستشرية أيام الحرب، التراخي الذي حصل في مراقبة الورش والمباني والتأكد من استيفائها كل الشروط الهندسية المطلوبة. ومع استعادة البلدية موقعها منذ 26 عاماً ضبطت الأوضاع أكثر وإن كان بعض الأهالي يشكّون في ذلك ويؤكدون أن عملية منح الرخص بشكل عشوائي استمرت حتى في أيام البلدية. انتقادات كثيرة تطال البلدية حتى أن لجنة الأشغال فيها قد تم حلها في العام 2019 بناء على شكوى مقدمة الى التفتش المركزي بيّنت وجود مخالفات كثيرة واستغلال النفوذ للاستفادة الخاصة… لكن البلدية وبعد الكوارث التي حصلت بدأت تتحرك بشكل خجول لتحذير سكان المباني المعرضة للخطر لرفع المسؤولية عنها ووضعها على كاهل الضحايا كما يقول أحد سكان مبنى ندى 3 الذي هو جزء من مجمعات يزبك المنتشرة في كل أحياء المنصورية.
البناية التي انهارت في شهر تشرين الأول لا تزال قصتها عالقة في المحاكم أما مبنى ندى 3 الواقع على العقار 1260 ولا سيما البلوك D فيه فهو عرضة لخطر يومي يهدد كافة ساكنيه ولم يكفِ إنذار وجهته شرطة البلدية بتاريخ 13 كانون الثاني 2023 لسكان المبنى بإخلائه في غضون 48 ساعة لرفع الضرر عن القاطنين والبعض يقول إن الإنذارتم توجيهه في العام 2024…
المرّ والأمرّ
يروي السيد وديع فاخوري وهو القاطن المتضرر الذي دخلت الصخرة الى منزله أنه بات وعائلته مهجرين إضافة الى غالبية مالكي الشقق الذين يسكنون في الجزء الواقع تحت الشير، أما الباقون فعلى مضض ورغماً عنهم إذ لا مكان آخر يلجأون إليه مع عائلاتهم ومعظمهم من العسكريين المتقاعدين. حين نسأل فاخوري لماذا تم شراء شقة واقعة تحت شير صخري مخيف؟ ألم يقلقهم الأمر عند الشراء؟ نفاجأ بجواب محزن يشرح كل شيء. فالرجل كان قد اشترى شقة في منطقة بياقوت للمالك نفسه لكن حين أعلن إفلاسه ولم يعد قادراً على إتمام المجمع وجد فاخوري نفسه في ورطة كبرى حيث دفع أمواله ولم ينل الشقة الموعودة لتأمين سقف لعائلته. حينها تم رفع تظلماً الى الجيش كونه عسكرياً وتم استدعاء المالك وطلب منه تأمين شقة بديلة. وحين عرضت عليه هذه الشقة قبل بها مرغماً حتى لا تضيع الأموال التي دفعها. «لم يجبرنا على المر إلا الأمرّ منه» يقول فاخوري ومثله العسكريون المتقاعدون الآخرون.
مسيرة طويلة من المراجعات أجراها فاخوري والسكان منذ شباط العام 2018 حين سقطت أول صخرة. من البلدية الى القائمقام مارلين حداد التي قصدت المكان ومعها شرطة ومهندس وأكدت أن القضية يجب أن تحل وطلبت من المتضررين رفع كتاب الى المحافظ ومن بعده كتاب الى البلدية ليتم تحويله الى اتحاد بلديات ساحل المتن… نفذ الفاخوري كل الخطوات وصار يكرر زيارات المراجعة ليواجه بتهرب المسؤولين وتحاشيهم لقاءه وانتست القضية الى أن حلت ليلة الميلاد 2023 وانهارت صخرة وأصابت غرفة النوم في منزل طوني شعبان في غياب ساكنيه الذين كانوا يحتفلون بالعيد في قريتهم. سكان المبنى ظنوا يومها أنها ضربة إسرائلية لشدة الدوي الذي احدثه سقوطها. تم الاتصال بالبلدية وقام شعبان على حسابه الخاص ببناء حائط إضافي في غرفة النوم عله يحمي عائلته من الضرر، لكن الشير كان الأقوى فألقى بصخوره المتزعزعة التي ثقبت حائط الدعم وأكملت نحو منزل فاخوري وتسببت باضرار كبيرة. واليوم لا تزال الصخور معلقة في الشير في انتظار شتوة أخرى وكارثة أخرى تطمر العائلات، تتحرك بعدها ربما الأطراف المعنية.
إنذار البلدية لم يحل المسألة التي تحتاج الى حل جذري مكلف جداً وفق رأي الجميع يقوم على بناء حيط دعم متين يحمي المباني ويمنع تساقط الصخور من الشير. وهنا ندخل في متاهة من المسؤوليات والإشكاليات لا يعرف لها طريق للخروج. من المسؤول عن بناء حيط الدعم؟ لمن تعود ملكية الشير؟ هل تراجع المبنى عن الشير تراجعاً يحفظ المسافة القانونية؟
تحدثنا مع أحد الأشخاص الذين يتابعون القضية لكنه فضل إبقاء اسمه طي الكتمان وكأن فضح الأمور سوف يساهم في عرقلتها أكثر في حين ان كل ما يطلبه السكان هو رفع الضرر عنهم وليس اذية أي طرف آخر…المبنى بحسب رأيه أقام جدار دعم وصل الى حدود الطابق الأخير لكنه لم يكن بالمواصفات الفنية والقانونية المطلوبة لا سيما في البلوك D الأقرب الى الشير فيما بقيت المسافة العليا من الشير غير مدعمة لأنها ليست ملكاً ولا مسؤولية السكان او حتى مالك المجمع. في القسم الآخر من المبنى تم تشييد جدار دعم قامت حينها المطربة نجوى كرم والتي تملك بناية عند الطرف الغربي للشير بالمساهمة في تشييد جدار متين يمتد من الأرض حتى حدود مبناها فيساهم بذلك في حماية المبنى العلوي الذي كانت تسكنه كرم وبلوك A التابع لسنتر ندى 3. وبالفعل استطاع هذا الجدار الصمود ولم يصب هذا البلوك أية اضرار.
يتساءل القانوني الذي تحدثنا إليه عن مسؤولية البلدية واتحاد البلديات والتنظيم المدني وعن منح الرخص ومراقبة التنفيذ. ويقول إذا كان يزبك تاجر بناء فمن هي الإدارة التي قامت بمراقبته؟ إدمون يزبك أعلن إفلاسه منذ حوالى 15 عاماً وبقي الوضع القانوني لعدد كبير من بناياته وشققها ملتبساً نتيجة « التفليسة» وغير معروف من المسؤول عنه اليوم. والملاحظة القانونية الأولى التي يثيرها وضع ندى 3 لمن يتبع الشير الشاهق الذي يمر فوقه طريق عام؟ وهل هذا الطريق داخلي ام عام؟ وهل يتبع لبلدية المنصورية ام بيت مري أم لوزارة الأشغال؟ من يملك الطريق؟ الإجابة عن هذا السؤال تحدد من هو المسؤول عن الشير وبناء حائط الدعم عليه لأن مالك الطريق هو ما يعرف قانوناً بحارس الجوامد وهو المسؤول. ولكن حكماً ليس سكان المبنى فهم لا يملكون الأرض المسببة للضرر وليسوا مسؤولين عن تشييد جدار يكلف بحسب التقديرات حوالى 600000 دولار فيما هم غير قادرين على تصليح أضرار شققهم الصغيرة. وفي القانون، البلدية مسؤولة عن سلامة السكان ودورها رفع الضرر أولاً عنهم ثم مطالبتهم بالمشاركة في تحمل التكاليف وكذلك صاحب الملك ومن أعطاه الرخصة ومن تابع تنفيذ الأشغال… متاهات قانونية كثيرة والنتيجة واحدة عائلات مهجرة وسكان مصابون بالذعر ومعرضون للخطر في كل لحظة.
النائب إدغار طرابلسي من القلائل الذين يتابعون القضية رغم كونه ليس نائباً عن المنطقة ولكن بحكم صداقته مع أحد السكان من الطائفة الإنجيلية. يتحرك، يراجع البلدية ويعد بإيجاد حل. فهل يكون الحل عن يد نائب من خارج المنطقة فيما نوابها لا يبدون أهتماماً حقيقياً؟ ام أن إدارة مخاطر الكوارث كما الهيئة العليا للإغاثة هما المسؤولتان عن إيجاد حل يرفع الخطر عن السكان المنكوبين؟
في خلال اتصال أجريناه مع احد المهندسين في مديرية الطرق والمباني عرفنا أن القاعدة الأولى للحصول على رخصة بناء هي إفادة المهندس الجيولوجي الذي يقوم بدراسة الأرض ويرفع تقريره حول مدى تحمل الأرض للبناء. ولكل نوع من الأرض شروطه للبناء فالأرض المنحنية او الرملية أوالواقعة بجانب شير أو صخور تتطلب مواصفات مختلفة عن المباني المشيدة على أرض عادية. المواصفات موجودة ومحددة لكن تبقى العبرة في التنفيذ. وفي الحالة التي نتحدث عنها كان يجب مثلاً إبعاد الصخور او جعلها على شكل مدرجات مثلاً او حتى الامتناع عن البناء جانبها. أما وقد حصل الضرر فيبقى الأمل بالله وحده ليحمي الناس وعائلاتهم.