كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”:
تتعاظم نقمة المسيحيين في لبنان على الدولة والنظام والتركيبة كلّها، ما يجعلهم يختارون درب الهجرة أو المطالبة بتغيير النظام أو شكل الدولة. وتطفو أخيراً على سطح النقاشات طروحات عدة، من اللامركزية الإدارية المالية الموسّعة إلى الفدرالية وصولاً إلى «التقسيم» أو الانفصال، في ظلّ عدم القدرة على بناء دولة أو تحقيق أي تغيير في البلد، أو الوصول إلى نزع كلّ السلاح غير الشرعي من المخيمات الفلسطينية إلى «حزب الله» الذي يحتكر بدلاً من الدولة الممثّلة بالحكومة والسلطة الشرعية، قرار الحرب والسلم.
تتكاثر الأصوات المسيحية التي تطرح ما هو أبعد من الأزمة الحالية، انطلاقاً من أنّه عند كلّ استحقاق رئاسي أو تأليف حكومة سيحلّ الشغور والتأخير، وسيدخل البلد في أزمة بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر. وبالتالي يتركّز الطرح الأساس على أنّ هذا النظام أثبت عدم فعاليته، إضافةً إلى مشكلة من طبيعة استراتيجية، بحيث هناك سلاح لا يُمكن نزعه وفريق يربط لبنان بمحاور خارجية. لذلك يتركّز التفكير المسيحي عامةً، على طريقة الاستفادة من قوة إقليمية – محلية ووضعية خارجية للدفع في اتجاه تغيير ما يسمح ببناء دولة ويمنع تأثير «الحزب» وسلاحه على البلد كلّه، أو تأثير أي جماعة لبنانية سنية أو شيعية أو درزية أو مسيحية تريد أن تذهب إلى ارتباطات ومشاريع لا علاقة للبلد بها، ما يجعلها تتحمّل ذلك بمفردها، إنّما ضمن دولة واحدة، فـ»التقسيم» لا يزال محصوراً على المستوى الشعبي تعبيراً عن النقمة. هذه هي الرغبة المسيحية الفعلية وما يُعمل للوصول إليه، إنّما متى؟ أحد لا يعلم.
تعترف جهات مسيحية أنّ المشكلة الأساس التي تواجه الجميع، تكمن في غياب قوة الضغط القادرة على تحقيق أي شيء، فلا توجد «قوة قادرة» على تطبيق «اتفاق الطائف» أو الذهاب إلى اللامركزية الموسّعة أو الفدرالية، أو غيرها من الطروحات. وبالتالي هناك اقتراحات وأفكار كثيرة، لكن النقص الأساس هو في طريقة الوصول إلى أي منها.
إنطلاقاً من ذلك، تقارب قوى سياسية مسيحية أساسية هذه المسألة بواقعية، إذ لو كانت هناك قدرة على تطبيق الدستور أي «اتفاق الطائف»، لما خرج أي من هذه الطروحات، فهذه الأفكار أتت نتيجة الاستعصاء عن تطبيق الدستور. ولو وُجِدت القُدرة على تطبيق «اتفاق الطائف»، لكان هناك سلاح موحّد ودولة واحدة.
لا تزال قوى سياسية أساسية، خصوصاً بكركي والأحزاب المعارضة، تؤمن بأنّ «اتفاق الطائف» يحلّ المشكلات ذات الطابع الاستراتيجي، وهي: العودة إلى اتفاق الهدنة بين لبنان واسرائيل ما يمنع الحرب، حلّ الميليشيات كلّها ما ينزع مشكلة سلاح «حزب الله»، العودة إلى ميثاق الـ1943 أي الحياد عن الشرق والغرب، وبالتالي تنتفي مشكلة أنّ لبنان جزء من محاور. فإذا حُلّت هذه المشكلات كلّها لا يتبقى إلّا الاختلاف حول مشاريع اقتصادية أو سياسية أو انمائية، وهذا طبيعي في أي دولة. وبالتالي إنّ «اتفاق الطائف» توصّل إلى حلّ هذه الإشكاليات، بحسب مصادر مسيحية، إلّا أنّ «محور الممانعة» رفض التزامها وتطبيقها. لذلك، تعتبر، أنّ الذي لا يستطيع أن يطبّق «اتفاق الطائف» لن يقدر على تطبيق أي طرح آخر.
وتقول مصادر كنسية إنّ لبنان لا يعيش إلّا كما هو، بسهله وجبله وبحره. وتوافق على طرح اللامركزية الإدارية الموسّعة بهدف إنماء المناطق، مؤكدةً أنّ «التقسيم غير وارد»، وأنّ الحلّ يكمن في تطبيق «اتفاق الطائف» مع تعديل الثغرات الدستورية على مستوى تحديد مهل لإنجاز الاستحقاقات الدستورية، مشدّدةً على أنّه بلا المناصفة لن يبقى مسيحي في لبنان وسيختلّ البلد.
الباحث في «الدولية للمعلومات» الدكتور محمد شمس الدين يشير إلى أن لا طرح دقيقاً حول ما يريده المسيحيون، معتبراً أنّ الكلام عن التقسيم يأتي ضمن إطار سياسي وليس ضمن إطار ديموغرافي، فالتقسيم لا يُمكن أن يتحقّق. ويلفت إلى أنّ السؤال الأساس: «هل هناك دولة مسيحية في لبنان لديها حظوظ أن تعيش؟».
بالنسبة إلى الهجرة من لبنان التي تعبّر عن الاستياء وفقدان الأمل من هذا البلد، شهد عام 2023 إرتفاعاً كبيراً في عدد المهاجرين بالنسبة إلى العام الذي سبقه، إذ في العام 2022 بلغ عدد المهاجرين 59 ألفاً و269 لبنانياً، ليرتفع عام 2023 إلى 175 ألفاً و500 مهاجر، بحسب «الدولية للمعلومات». ويبلغ مجموع عدد المهاجرين بين عامي 2012 و2023، 621 ألفاً و550 لبنانياً. ويوضح شمس الدين أنّ هذا الارتفاع الكبير في عدد الذين غادروا لبنان خلال سنة، من نحو 59 ألفاً إلى 17 ألفاً، سببه الأوضاع المزرية كلّها في البلد على المستويات كافةً، لافتاً إلى أنّ هذه الهجرة غير مرتبطة بالحرب في غزة والجنوب.
لا يوجد إحصاء أو بحث دقيق عن توزُّع المهاجرين طائفياً ومناطقياً، فالجميع يهاجرون. ويوضح شمس الدين أنّ المسيحيين غادروا خلال الحرب، أمّا الآن فباتت أعداد اللبنانيين المهاجرين من مسلمين ومسيحيين متقاربة، علماً أنّ المسيحيين باتوا يشكّلون 28 في المئة من السكان في لبنان، وبالتالي قد تكون نسبة المسيحيين المهاجرين أكثر من المسلمين، إنّما لجهة العدد فأعداد المسلمين المهاجرين أكثر من المسيحيين إذ إنّ عدد المسلمين في البلد أكثر.